الاثنين، 16 أبريل 2012

مهنة الدباغة في الموصل خلال العصور الحديثة-د.محمد نزار الدباغ


جاءت مفردة الدباغة في معاجم اللغة العربية من الفعل الثلاثي (دَبَغَ) الأديم دبغاً ودباغة ويدبغه وأديم مدبوغ والأديم في دباغه وفي دبغه ومنه مهنة الدباغة أي دباغة الجلود حسب الزمخشري في كتابه (أساس اللغة) والزبيدي في(تاج العروس)،أماالدباغة(Tanning) من الناحية الاصطلاحية فهي تحويل جلد الحيوان المنزوع إلى مادة غير متعفنة وقليلة المسامات ، وجاء فضل الدباغة في تطهير الجلود في حديث نبوي شريف نقله لنا ابن عساكر في كتابة(تاريخ دمشق) في سند طويل يرتفع إلى عطاء بن يسـار عن عائشـة أن النبي صلى الله عليه وسلـم قـال ( طهور كل أديم دباغه ) وهو ما يضطلع به الدباغ(Tanner) فهو من يقوم بدباغة الجلود ، أما المكان الذي تمارس فيه عملية الدباغة فهو المدابغ(Tanneries).
وتعد دباغة الجلود من أقدم المهن التي عرفها الإنسان منذ أن تكونت لديه ملكة التفكير، وفيما يبدو فأن معرفة الإنسان للدباغة كانت في بادئ الأمر تعتمد على قيامه بسلخ جلود الحيوانات الكبيرة ويلتف بها كما هي ، ونظراً لأنها كانت تتعفن وتتلف بسرعة ، فضلاً عما ينبعث منها من رائحة كريهة فقد اخذ يبحث عن شيء يتغلب به على هذه العيوب وربما يكون قد توصل في النهاية إلى استخدام أجزاء من بعض أنواع النباتات في عملية الدباغة.
وقد عُرفت الدباغة في بلاد آشور والتي كانت عاصمتها نينوى المقابلة لمدينة الموصل من خلال ما وصلنا من نصوص أكدت على ما تمتع به الآشوريون من مهارة ًفي مهنة الدباغة وليس أدل على ذلك من كونهم كانوا يحصلون على الجلود من الحيوانات المذبوحة والتي تشمل ما يقدم من حيوانات كهدايا للنذور وقرابين إلى الآلهة في المعابد أو ما كان ينحر في الولائم الملكية .
 وتشير كلمة أشجب (Ašgab) إلى الدباغ عند الآشوريين ، ويبدو أن الدباغ كان قد احتل مكانة مهمة في المجتمع الآشوري طالما كان يلبي رغبات الناس في تلبية احتياجاتهم من الجلود المدبوغة ، ولا يفوتنا القول أن الدباغة كانت تعتمد آنئذٍ(ولازالت) على الحرفيين المتخصصين بدباغة الجلود وصناعتها ، والنصوص التي تكلمت عن دباغة الجلود في بلاد وادي الرافدين عموما وبلاد آشور على وجه الخصوص كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها في هذه الورقة إلا أن الباحث انتقى نصا وردت فيه كلمة الدباغ بعبارة صريحة تدل على أن مهنة الدباغة كانت موجودة ورائجة في بلاد آشور، إذ جاء في النص  " 1100 جلود مسلوخة من المستودع تحت تصرف الدباغ " ويتضح من هذا النص أن هناك فرقا بين الجلود القديمة والجلود الجديدة السلخ بدلالة ورود كلمة " مسلوخة " في سياق النص والتي تشير إلى أن عملية سلخ الجلود وتهيئتها للدباغة كانت تعتمد على جلود الحيوانات المذبوحة حديثا.
        وقد استمرت مزاولة مهنة الدباغة في العصور الإسلامية وخصوصا بعد تمصير مدينة الموصل في العهد الراشدي ، وما لاقته المدينة من عناية الخلفاء الأمويين وولاتهم على المدينة غدت الموصل قاعدة وعاصمة لإقليم الجزيرة وتطور عمرانها وأسواقها وتجارتها وصولا إلى القرن الرابع الهجري/القرن العاشر الميلادي، إذ ذكر المقدسي صاحب كتاب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ضمن سياق كلامه عن دروب مدينة الموصل انه كان هنالك " درب الدباغين " ، وتذكر الدكتورة فيان موفق رشيد في دراستها عن خطط مدينة الموصل في العصور الإسلامية في تعليقها على نص المقدسي انه كان لابد للدباغين أن يتخذوا مدابغهم على نهر دجلة لعملية تنظيف ودباغة الجلود وما يتبع هذه العملية من انبعاث روائح كريهة فهي ترجح وجود مدابغ قرب النهر، ويرى الأستاذ سعيد الديوه جي في كتابه (تاريخ الموصل- في جزئه الأول) ضمن تعليقه على نفس النص أن الدرب كان يؤدي إلى محل الدباغة وكان الدباغون يسلكونه فعرف بهم ، ولا نعلم بالتحديد أين يقع هذا الدرب في الوقت الحاضر؟
        أما في العصور الحديثة فجاءت الإشارات عن الدباغة من خلال كتابات الرحالة الأجانب الذين زاروا مدينة الموصل بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر الميلاديين ، ومن بينها ما أشار إليه الرحالة اوليفييه إلى أن مدينة الموصل امتازت بصنع السختيان وهو نفيس جدا وله شهرة واسعة ، ويذكر سعيد الديوه جي في كتابه(تاريخ الموصل- الجزء الأول) أن السختيان هي الجلود الموصلية الشهيرة ، ويضيف سهيل قاشا في كتابه (الموصل في القرن التاسع عشر) في تعليله لمفهوم السختيان بأنه الجلد الرقيق الناعم الفاخر والغالي الثمن والجيد الصنع ، وأكمل بأن السختيان كان يستخدم للإنتاج المحلي ومنه ما يصدر إلى حلب في سوريا ومنها إلى مرسيليا في فرنسا ، وأشار الرحالة دوبريه في كتابه (رحلة دوبريه إلى العراق) والذي زار الموصل في بداية القرن التاسع عشر أن جلد الماعز كان يستخدم في صناعة القرب التي تربط بالأكلاك أثناء السفر النهري والتي أطلق عليها الظروف ، ونظرا لتوفر المادة الأولية وهي الجلود فقد ساعد هذا الأمر على رواج مهنة الدباغة في القرن التاسع عشر فضلا عن وجود العديد من الدباغين المتمرسين بمهنة الدباغة حتى أن الباحثة الأمريكية سارة شيلدزSarah Childs ذكرت في بحث لها حول تجارة الموصل الإقليمية في القرن التاسع عشر والمعنون ب (Regional Trade and 19th-Century Mosul) إلى وجود أزيد من 19 مدبغة في الموصل ،فضلا عن وجود أزيد من 100 حرفي متخصص في الدباغة حسب إشارة د.سرمد علي الجميل في كتابه المعنون ب ( مقالات علي الجميل في الاقتصاد والتجارة) ، وانخفض هذا العدد مع بداية القرن العشرين وبالتحديد إلى مدبغتين حسب ما ذكرت نفس المؤلفة في كتابها المترجم للعربية والمعنون ب ( الموصل قبل الحكم الوطني ) ، ونلاحظ وجود تراجع كبير في أعداد المدابغ في الموصل وخصوصا بعد سقوط الدولة العثمانية وترك العديد من الدباغيين للمهنة بعد دخول الجلود الأجنبية الوافدة من الهند عن طريق البصرة في جنوب العراق ومنها لبغداد ثم إلى الموصل ، ومع بدايات القرن العشرين بدأ تشكيل النقابات المهنية فقد بادر بعض من أصحاب مهنة الدباغة إلى تشكيل جمعية الدباغيين التي شكلت في  18/10/1930، برئاسة خطاب عمر محمود الدباغ ،بعد موافقة وزارة الداخلية حسب أحكام قانون تشكيل الجمعيات لسنة 1922وهكذا بدأت الجمعية ممارسة نشاطها المهني في الموصل، حسب ما أشار إليه الأستاذ معن آل زكريا في كتابه (الموجز الموسوعي في تأريخ أهل الموصل).
        ويذكر الأستاذ محمد توفيق الفخري (باحث ومهتم في تراث الموصل) أن المدابغ في الموصل قد تطورت وتركت الطرقة التقليدية في الدباغة ومنها ما ظهر في ستينيات القرن العشرين فذكر وجود شركة الدباغة العصرية ، وشركة الدباغة الفنية في منطقة الجوسق قرب المجزرة الحكومية حينما كان مندوبا عن شركة التأمين لمعاينة الأضرار التي حصلت للمواد الدباغية التي تردهم من الدول الأجنبية فضلا عن شركة دباغة الحاج يونس مقابل معمل السكر مجاورة للمطار العسكري وكانت المعامل أعلاه عامرة والعمل فيها مستمر ويصدر إلى الخارج .
        وإذا انتقلنا إلى المراحل التي تمر بها عملية الدباغة بناء على إشارة عادل سعيد الراوي في رسالته للماجستير والمعنونة (صناعة الجلود في العراق ) نجد أنها تبدأ بعملية السلخ وهي فصل الجلد عن جسم الحيوان بنزع الجلد مع الشعر والصوف أو بجز الصوف قبل ذبح الحيوان وتليها عملية الحفظ إذ بعد نزع الجلد بشكل كامل تملح الجلود وتنشر في الشمس حتى تتفسخ وتتأكسد المواد التي يحتويها الجلد وهي تمنع تعفن الجلد أما المرحلة الثالثة فهي التغطيس إذ يتم تغطيس الجلود في حفرة أو حوض فيه ماء وملح كي تتشبع الجلود بالأملاح لمدة معينة ، ثم يتم الانتقال إلى عملية التنظيف وإزالة الشعر وذلك بغطس الجلد في محلول اليوريا وأملاح الأمونيا حتى تتفسخ المواد العضوية الزائدة وبعدها يزال بعض بقايا الشعر أو الصوف باستخدام آلة حادة ،ثم تلوها مرحلة الضرب باستخدام العصي كي يمكن التخلص من تأثير الأنزيمات المعقدة التي تظهر على الجلد مثل بروز الانتفاخات غير المرغوب فيها كما كانت عملية الدق والفرك تساعدان في تحضير الجلود وإعدادها للدباغة ويتم  تخزينها الجلود في مخازن خاصة قبل الشروع بدبغها .
        وكانت هنالك ثلاثة أساليب للدباغة حسب ما ذكرت د.سهيلة مجيد في أطروحتها للدكتوراه والموسومة ب (الحرف والصناعات اليدوية في بلاد بابل وآشور) وهي :
1.الدباغة باستخدام بالزيت : وهي من أقدم الطرق واقلها استخداما وتتلخص بدهن الجلد الطري بالشحم والدهن ثم فرك الجلد ونشره حتى يفقد ببطأ رطوبته .
2.الدباغة بواسطة الأملاح المعدنية : وهي الطريقة الأكثر شيوعا وتعد مادة الشب والنورة من أهم المواد المعدنية الدابغة وكان يمزج مع مواد أخرى كالملح وسلفات (كبريتات الصوديوم) Sodium sulfate .
3.الدباغة بواسطة المواد النباتية : حيث استخدمت مواد نباتية محلية منها قشورالرمان المجففة التي تسمى المدار وهناك مادة أخرى هي مادة العفص الدباغية ، ومن المواد الأخرى مادة دِباغ أو الارطي زيادة على قشر الجوز ونبتة الدهناء الحمراء اللون  الدابغة .
        أما أدوات الدباغة فكانت بسيطة وتعددت من الأحواض والمقاشط والمرواح والتي تتكون من عصا خشبية تنتهي برؤوس مدببة من الحديد تستخدم لرفع الصوف أو الشعر الذي يطفو في الحوض.
        ولابد من القول أننا نجد أسماء كثير من الأسر الموصلية تنسب إلى الدباغ ( العمل الذي كانوا يمتهنونه) وكان معظمهم من متوسطي الدخل وقد برزت في الموصل ظاهرة تسمية الأسرة باسم الحرفة أو المهنة التي يحترفها أو يمتهنها أبناء هذه الأسرة والسبب في ذلك هو استمرار الأبناء في امتهان حرفة الآباء والتواصل فيها لقرون مثل بيت الدباغ حسب إشارة د.سجى قحطان في أطروحتها للدكتوراه والموسومة (الموصل في كتابات الرحالة في العصر العثماني)، ومن أشهر الأسر المنسوبة لهذا البيت في الموصل والتي عملت في مهنة الدباغة نجد على سبيل المثال لا الحصر بيت الحاج يونس الدباغ الذي كان يمتلك شركة للدباغة والمذكور آنفا ، ومنهم حسب اشارة اﻻستاذ ازهر العبيدي في (موسوعة اﻻسر الموصلية في القرن العشرين) عبدالله وسلطان ابني عبد الفتاح بن اسماعيل ، ومن نسلهم بيت الحاج حميد طه الدباغ الذي عمل دباغا لسنوات طويلة وكان له محل لصناعة الجلود في باب السراي ، وبيت الحاج مجيد طه الدباغ وعمل دباغا وتاجر جلود مع سوريا ، وكذلك نجد بيت الحاج عبد الرزاق الحاج حسن الدباغ ، وبيت الحاج توفيق أيوب العارف الدباغ الذي كان يمتلك مدبغة وعمل لديه العديد من الدباغيين المحترفين ، والحاج عبد الرحمن أغا ابن الحاج مصطفى ابن عمر الدباغ الذي عمل هو وأولاده في الدباغة إذ كانوا يمتلكون مدبغة مستأجرة بعقد مساطحة ، وأخيرا عائلة الحاج نعمان الدباغ .

الصورة نقلا عن الموقع الالكتروني :http://www.eqtesady.com/site/files/pic_news/63bfb6359b.bmp

تعقيبات على مقال - ولاية الموصل في كتاب ( جغرافية الممالك العثمانية المصورة ) المطبوع قبل مائة سنة - ترجمة د.محمود الحاج قاسم-مقال بقلم: د.محمد نزار الدباغ


تعقيبات على مقال -  ولاية الموصل في كتاب
( جغرافية الممالك العثمانية المصورة )
المطبوع قبل مائة سنة -  ترجمة د.محمود الحاج قاسم

                                                   د.محمد نزار الدباغ
       تعد المصنفات الجغرافية التي تناولت الحديث عن الدولة العثمانية بشكل عام ، وولاية الموصل بشكل خاص ، من المصادر الغنية بمعلوماتها القيمة كونها تنفرد بنصوص ومادة قد لا نجدها في المصنفات التاريخية ، وسينصب حديثنا في هذا المقال على كتاب هو أشبه بأطلس جغرافي يوضح أقاليم الدولة العثمانية مصحوبا بالشرح على أحوال كل ولاية من ولاياتها ومنها ولاية الموصل . والكتاب الذي نحن بصدد الكلام عنه في جزء منه بما يتعلق بالموصل في زمن الدولة العثمانية كان الأستاذ الفاضل الدكتور محمود الحاج قاسم قد تفضل بكتابة مقال قيم عنه كون الكتاب هو من مقتنيات والده ، والحق يقال ان مقال الدكتور محمود الحاج قاسم هو مقال فريد في بابه كونه سلط لنا الضوء على هذا المُؤَلَف الثر بمعلوماته فضلا عن التعريف به ، وتحدث بشيء من التفصيل عن ما ترجمه من مادة تتعلق بولاية الموصل من جميع نواحيها ، حيث أن الكتاب مطبوع باللغة التركية ، ويعد من أوائل الكتب التي دُرِّست في المدارس الإعدادية في الموصل ، وتنبع أهمية هذا الكتاب من انه يزدان بالخرائط الملونة عن أقاليم الدولة العثمانية ، زيادة على انه يعد من أوائل الآثار المطبوعة في العراق التي اهتمت بالجانب الجغرافي ، فهو بادرة طيبة من الدكتور محمود الحاج قاسم الذي عرّفنا بهذا الإرث الجميل من كتب والده ليطلعنا على أخبار ولاية الموصل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .
       وتعقيبا على ما نشره الدكتور محمود الحاج قاسم في مقاله المترجم تحت عنوان : (ولاية الموصل في كتاب جغرافية الممالك العثمانية المصورة المطبوع قبل مائة سنة) ، فتبادر إلى ذهني كتابة بعض التوضيحات والتعقيبات حول هذا المقال المفيد والتي لا تقلل أبدا من الجهد الذي بذله الدكتور محمود الحاج قاسم في ترجمته لما يتعلق بولاية الموصل ، بالقدر الذي يتعلق بتخصصي في مجال الجغرافيا والبلدان وتحديدا ما يتعلق بالموصل ، إذ وردت بعض المفردات في المقال المترجم كان لابد من توضيحها والوقوف عندها لكي تكتمل الصورة للقارئ.
       ورد في الترجمة الخاصة بعنوان الكتاب ما نصه " جغرافية الممالك العثمانية المصورة " ، وبالعودة للعنوان المكتوب على غلاف الكتاب باللغة التركية وجدنا أن ترجمة عنوان الكتاب هي كآلاتي : ( الخرائط الجغرافية المصورة للممالك العثمانية ) (1) . وجاء في نفس النص كلمة " جغرافية " بالتاء المربوطة ، وبالعودة إلى نفس الكلمة في ورقة الغلاف عن الأصل التركي نجدها " جغرافيا سي " أي بحرف الألف وليس بالتاء ، مرد ذلك أن كلمة ( جغرافية ) بالتاء المربوطة في اللغة العربية هي مفردة حديثة العهد قياسا بنفس الكلمة المكتوبة بالألف أي (جغرافيا) ذات الأصل الإغريقي من كلمة (Geographica)
والمُؤَلفة من شقين ، الأول : Geo ويعني الأرض ، والثاني : Graphica ويعني الوصف أو الصورة ، وعلى هذا الأساس فالجغرافيا هي وصف الأرض (2) إذ وردت كلمة ( جغرافيا ) لأول مرة عند الجغرافي والفلكي الإغريقي كلاوديوس بتوليمايوس القلوذي ( ت : 161 م ) والمعروف ببطليموس ( 3 )  في كتابه ( كتاب جغرافيا في المعمور وصفة الأرض ) (4) .
       وورد في ترجمة المقال كلمة " المدارس الرشدية " ، وهي المدارس الرسمية التي قامت الدولة العثمانية بافتتاحها  وفق القوانين الصادرة عن نظارة (وزارة) المعارف في استانبول وقد أعطتها الأولوية عن المدارس الابتدائية تاركة الأخيرة تعمل وفق تعليمات المؤسسات الدينية القديمة والمتمثلة بالكتاتيب ، وفيما يتعلق بولاية الموصل فقد افتتحت أول مدرسة رشدية سنة 1890 م ، وبلغ مجموع ما فتح من هذه المدارس في ولاية الموصل ، أربعة عشر مدرسة رشدية خمسة منها كانت في لواء مدينة الموصل أما البقية فقد توزعت على الاقضية والنواحي التابعة لها ، وكانت هذه المدارس تقبل خريجي الدراسة الابتدائية ، فضلا عن أن اللغة الرسمية للتدريس فيها كانت اللغة التركية ، وتوزعت الدراسة فيها على ثلاثة صفوف ثم أضيف صف رابع ،  أما عن مناهج الدراسة في هذه المدارس فاشتملت على دراسة عدد من المواد من بينها مبادئ العلوم الدينية وقواعد العربية وعلم الحساب وأصول مسك الدفاتر والرسم ومبادئ الهندسة والتاريخ العام ، والتاريخ العثماني والرياضة والجغرافية (5) .
       وجاء أيضا في المقال المذكور اسم " شركة قومانديت " والتي تولت طبع الكتاب الذي تحدث عنه الدكتور محمود الحاج قاسم، وما نود أن نوضحه هنا أن شركة القومانديت حسب قانون التجارة العثماني هي عبارة عن وجود شريك أو شركاء متعددين مسئولين متكافلين من جهة أو عبارة
عن وجود شريك أو شركاء متعددين يضعون رأس مالهم فقط وهم المعبر عنهم بقومنديتور أي صاحب راس المال وشريك الوصاية ولهذه
الشركة عنوان آخر مشترك وهو أن تكون باسم احد الشركاء أو أكثر من أولئك الشركاء المتكافلين المسئولين( 6).
       وذكر الدكتور محمود الحاج قاسم  في مقاله المترجم ان الكلام عن ولاية الموصل يقع في الصفحات 123-124 ، وبالرجوع الى المادة المتعلقة بولاية الموصل عن الأصل المكتوب باللغة التركية في الكتاب نجد الكلام عن ولاية الموصل جاء في الصفحات 125-126 ( 7) .
       وورد ضمن الحديث عن حدود ولاية الموصل الكلام عن " جبل بوز " ، دون أن نجد في الترجمة ما يشير إلى موقعه باستثناء أن أعلى قمة فيه يبلغ ارتفاعها 3000 متر وانه يقع على حدود إيران ، وربما أن الإشارة إلى موقعه لم يأتي مُؤَلِف الكتاب على ذكرها مكتفيا بما ذكره عن هذا الجبل ، وفي الحقيقة هناك رأيين حول موقع هذا الجبل منها انه يقع في أقصى جنوب تركيا ضمن سلسلة جبال طوروس في إقليم كاريا تحت اسم (بوز داغ)  ويبلغ ارتفاعه 3000 قدم او 1000م ، وهنا نجد وجها للشبه في ارتفاع الجبل ( رقما) بين ما ذكره الدكتور محمود الحاج قاسم والرأي الأول على الرغم من اختلاف الموقع وعدم اتفاق في ارتفاع الجبل في وحدة قياس المسافات بين المتر أو القدم مما لا نجد له تعليلا شافيا (8) ، أما الرأي الثاني هو أن جبل بوز أو ما يسمى (بوز اتا داغ) اسم لجبل واحد ويقع في جمهورية قرغزستان المحاذية للصين وهذا الجبل معروف في تاريخ الحروب بين الترك والصين في العصور الغابرة (9) والحقيقة أن الرأيين اللذين طرحناهما هما لبيان وجه الشبه مع ما أورده الدكتور محمود الحاج قاسم في مقاله المترجم ، وربما أن هناك جبلا ثالثا غير الجبلين اللذين ذكرناهما في الرأيين المطروحين يقع ضمن الحدود الغربية لإيران بأسم جبل بوز والذي يعني جبل الثلج (الجليد ) مما نقله لنا مؤلف الكتاب التركي ( ابن النزهت جواد ) ، وترجمه الدكتور محمود الحاج قاسم وهو الأرجح والأقرب للصواب .
       وأشار الدكتور محمود الحاج قاسم في ترجمته إلى وجود مملحة مشهورة في براري قرية " يره واره "  وتوضيحنا هنا أن هذه القرية لا زالت تعرف بنفس الاسم إلى الوقت الحاضر وهي تقع في ناحية (الگوير) على طريق الموصل – اربيل ويسكن القرية أبناء الطائفة الايزيدية (10) .
       وأخيرا وردة كلمة " مزبورة " عند الحديث عن الأقسام الإدارية لولاية الموصل بنص العبارة التالية : " أقسامها الإدارية : ولاية مزبورة تقسم إلى ثلاثة ألوية هي ( موصل ، شهرزور ، سليمانية ) " ، واصل كلمة (مزبورة ) ربما جاءت من كلمة الزبور تصديقا لقوله تعالى {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (11) والزبور بضم الزاي حيث كان ، بمعنى : جمع زبور ، أي آتينا داود كتبا وصحفا مزبورة، أي : مكتوبة(12) ، وقد تعني التجميع أو التكيس إذ أن كلمة مزبورة عند العرب جاءت من تزبير الحلال ( الإبل ) أي جمعه وتكديسه (13) وبالإجمال فربما أن المقصود من كلمة  " ولاية مزبورة " أن الموصل كانت ولاية قد أضيفت إليها مدن من خارج ولايتها وزبرت معها فأطلق عليها ولاية مزبورة أي الولاية المُجَّمَعة التي تجمع الألوية والمدن .ونحن نعلم أن التقسيمات الإدارية العثمانية لم تكن ثابتة إذ كانت حدود الولايات والألوية والاقضية والمدن عرضة للتعديلات والتبدلات بشكل دائم (14) وربما هذا ما ينطبق على ولاية الموصل.
      

    هوامش المقال
(1) راجع صورة غلاف الكتاب في آخر المقال . ويقدم الباحث شكره للدكتور هشام سوادي ، التدريسي في قسم التاريخ ، كلية التربية ، جامعة الموصل لتفضله بمساعدتي على ترجمة عنوان الكتاب من التركية إلى العربية .
(2) ينظر : مادة ( جغرافيا ) في الموسوعة الحرة ( ويكابيديا ) على الموقع الالكتروني : www.ar.wikipedia.org
(3) ينظر : مادة ( كلاوديوس بطليموس) في الموسوعة الحرة ( ويكابيديا ) على الموقع الالكتروني : www.ar.wikipedia.org
(4) أ. د محمد محمود السرياني ، حقيقة كتاب " جغرافيا " لبطليموس وأثره في الفكر الجغرافي العربي ، بحث مقدم للمؤتمر السنوي الثامن والعشرين لتاريخ العلوم عند العرب المنعقد في معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب خلال الفترة من 25 – 27 حزيران 2007 م ، ص 4 (رقمي).
(5) د. علياء محمد ، المدارس الرشدية في العراق ، دراسة منشورة في جريدة المدى ، على الموقع الالكتروني : www.almadapaper.net
(6) قانون التجارة العثماني ، دراسة منشورة على الموقع الالكتروني : www.shaimaaatalla.com/vb/showthread.php?t=1098&page=1
(7)    راجع صورة المادة المتعلقة بولاية الموصل المكتوبة باللغة التركية في آخر المقال.
(8) ينظر : مادة كاريا (إقليم) ، في الموسوعة الحرة ( ويكابيديا ) على الموقع الالكتروني : www.ar.wikipedia.org ، وعن موقع إقليم كاريا راجع الخريطة في آخر البحث .
(9)    ينظر الموقع الالكتروني : http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=176454
(10)                     مقابلة مع السيد بدر محمود ، معلم ، تولد الموصل – 1939 بتاريخ 31/10/2011 .
(11)                     سورة الإسراء ، الآية 55 .
(12)      ينظر الموقع الالكتروني : http://ejabat.google.com/ejabat/thread?tid=278ccf99ded54eac
(13)      ينظر الموقع الالكتروني : www.kuwait-history.net/vb/archive/index.php/t-1387.html
(14)      س.موستراس ، المعجم الجغرافي للامبرطورية العثمانية ، ترجمة : عصام محمد الشحادات ، ( ط 1 ، بيروت ، دار ابن حزم ، 2002 ) ، ص 11.

صورة غلاف الكتاب  
مع ورقتين لوصف ولاية الموصل باللغة التركية
 فضلا عن خريطة الدولة العثمانية 

والصور نقلا عن ملتقى اهل الموصل على الموقع الالكتروني : 














الأحد، 15 أبريل 2012

كتاب (يتيمة الدرر في النزول وآيات السور) لمحمد بن أحمد الموصلي المعروف بشعلة (ت : 656هـ/1258م)-عرض:د.محمد نزار الدباغ


إن العلوم التي تخدم كتاب الله الجليل كثيرة جدا ، وقد تسابق العلماء في استنباطها ، والتصنيف فيها ، منذ القرون الأولى في ميادين متعددة فسطروا فيها الكثير ، من المنظوم والمنظور ، المطول منها والمختصر ، وقد لفت نظري منظومة شعرية قيمة في عدد آيات القرآن الكريم ، المكي منه والمدني للحافظ العلامة شمس الدين محمد بن أحمد الموصلي أبي عبدالله الحنبلي المعروف بشعلة الذي ولد بالموصل سنة (623هـ/1225م) وتوفي فيها سنة (656هـ/1258م) وله ثلاثة وثلاثون سنة ، ولا نجد من بين المصادر ما يعلل سبب إطلاق لقب شعلة عليه ، فلعله لقب به لتوقد ذهنه وفرط ذكائه ، ورغم قصر عمره إلا انه ترك عدداً من المؤلفات في علوم القرآن والنحو والأدب يربو على عشرة مصنفات من بينها المنظومة ٍالمتقدمة الذكر في عنوان المقال.
وترجع أهمية هذه المنظومة إلى أنها وصتنا بنسخة مخطوطة وحيدة وفريدة محفوظة في مكتبة شستر بتي في دَبلِن بأيرلندا ضمن مجموع ، أولها (بسم الله الرحمن الرحيم جزء فيه يتيمة الدرر في النزول وآيات السور...) ، وآخرها ( نَجَزَت بعون الله مُوجَزَةً وقد جَمعت من الآداب كُل مؤملِ ) وان ما يؤخذ على المحقق هو عدم ذكره لرقم المخطوطة عند التعريف بها  ، ونسخة المخطوطة قيمة كتبت بخط مشرقي ، من خطوط القرن (8هـ/14م) خالية من اسم الناسخ ، وهي مكونة من ورقتين ونصف ، ومسطرتها 15 سطراً ، وكلماتها تتراوح ما بين 8 إلى 10 كلمات في السطر الواحد ، وهي عبارة عن نظم ( شعر ) عدد أبياتها ستة وخمسون بيتاً وفي آخرها إجازتان من المصنف لاثنين من تلاميذه ، وقد كتب المُؤلِف منظومته هذه سنة (649هـ/1250م) أي قبل وفاته بسبع سنوات ، وعُني بدراسة وتحقيق هذه المخطوطة وإخراجها للنور أ.د.محمد بن صالح البراك وتم طبعها في دار ابن الجوزي بالرياض سنة 2007.
ومن بين الستة وخمسين بيتاً مما اشتملت عليه هذه المنظومة ، نجد أن الستة الأولى منها في الخطبة ، أولها :
الحَمدُ لله المَلِيكِ المُفَضّـل                     ثُمَ الصَلاَةُ عَلَى الشَّفِيعِ المُرسَلِ
وآخر الخطبة في البيت السادس من المنظومة :
وَالمَذهبُ الكُوفِيُّ مُعتَمَدِي بِهَا                    إِذ كَانَ مُعتَمَدَ الثِّقَات الكُمـَّلِ
وفيها كشف المُصنِف عن اصطلاحه في النظم ، ثم ذكر بعدها اثنين وثلاثين بيتاً في ذكر تعداد آيات سور القرآن الكريم ، ثم أفرد سبعة أبيات في ذكر السور التي لا خلاف فيها بين علماء العدد ، وعددها أربعة وأربعون سورة وما سوى هذه مما تقدم ففيه خلاف بين أهل العدد ، وجملتها سبعون سورة وهذا هو مجموع سور القرآن الكريم أربع عشر ومائة سورة .
       ثم ذكر المُصَنِف تسعة أبيات في ذكر السور المكية والمدنية فعدد السور المدنية المتفق عليها ، وجملتها ثنتان وعشرون سورة ، ثم ذكر السور المختلف فيها ، وعددها سبعة وعشرون سورة وما سوى هذين هو المكي ، وعدد سوره خمسة وستون سورة ، فيكون المجموع أربع عشرة ومائة سورة ، هي عدد سور القرآن الكريم ، ثم ختم المُصَنِف النظم ببيتين تم بهما ستة وخمسون هي مجموع هذه المنظومة الشعرية ( القصيدة ) ، وإن ما يحسب للمحقق هو انه اخرج لنا مخطوطاً ثميناً لمؤلف موصلي لم ينل من الشهرة الكثير إلا انه ترك تراثاً علميا متمثلاً بمصنفاته ، فضلاً على المنهج الجيد للمحقق ودقة تعليقاته ورجوعه إلى ما توفر بين يديه من مصادر عرفتنا بشيء عن المُصَنِف وحياته وثقافته عصره .





أ.د.صالح احمد العلي ودراسته لمعالم العراق العمرانية-د.محمد نزار الدباغ



أ.د.صالح احمد العلي ودراسته لمعالم العراق العمرانية-د.محمد نزار الدباغ



تعد المصنفات البلدانية مورداً مهماً لدراسة تاريخ العراق إبان عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية والتي تحدد بصورة دقيقة أو تقريبية المواضع والمعالم العمرانية ، وإن ما نقصده بالمصنفات البلدانية هي تلك الكتب التي تعنى بالجغرافيا والبلدان والرحلات ، والتي تمتاز عن المصنفات التاريخية بمعاصرتها للحدث كون البلداني هو شاهد عيان لكل ما مرّ به أثناء رحلاته وتنقلاته بين الأقاليم والمدن والقرى .
وسينصب تركيزنا في هذه الورقة على تناول هذه المصنفات باعتبارها مصدراً لدراسة كل ما يتعلق بمعالم العراق العمرانية من جوامع ومساجد وأديرة وكنائس وقصور وقلاع وأسوار وأسواق وغيرها من عناصر العمارة في المدينة العربية الإسلامية .
وكل هذه الكتب البلدانية بحثت في أقاليم الدولة العربية الإسلامية ، وخص منها العراق بفصول مقتضبة فيها معلومات ليست بالواسعة أو الشاملة ، لكنها امتازت بالدقة والوضوح والموضوعية . وإن الحدود الجغرافية للعراق التي نقصدها في هذه الورقة تشمل إقليم العراق ( وليس العراق بحدوده الحالية ) والذي كان يشمل آنئذٍ كل المدن الواقعة بين وسط وجنوب العراق ، من بغداد وحتى البصرة ، مروراً بواسط والحلة والكوفة والنجف والحيرة والقادسية  ، زيادة على العديد من المدن القرى الأخرى والتي لا يتسع المجال لذكرها كونها كثيرة ، لذا سنقتصر على إيراد المهم منها من خلال ما جاء عنها من نصوص ذكرت في المصنفات البلدانية .
ووقع اختيارنا على كتاب ( معالم العراق العمرانية ) ، للمرحوم الأستاذ الدكتور صالح أحمد العلي ، ليكون المعين الذي ننهل منه في بيان أهمية هذه المصنفات البلدانية في دراسة معالم العراق العمرانية والتي امتازت بتنوعها .
ولعل أشهر ما وصلنا من الكتب القديمة التي عنيت بوصف والبلدان والتي اعتمد عليها أ.د صالح احمد العلي كموارد في دراسته عن إقليم العراق عمرانياً  هي كتاب(البلدان) لليعقوبي ، والذي وصلتنا منه نسخة ناقصة ، وكتاب ( التنبيه والإشراف ) للمسعودي ، و( المسالك والممالك ) لأبن خرداذبه ، وكتاب ( المسالك والممالك ) للأصطخري ، وكتاب ( الخراج وصنعة الكتاب ) لقدامة بن جعفر ، فضلاً عن كتاب أبن الفقيه الهمذاني والمعنون ب ( مختصر كتاب البلدان ) ،  زيادة على كتاب ( فتوح البلدان ) للبلاذري ، و ( الاعلاق النفيسة ) لأبن رسته ، وكذلك كتاب " أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ) للمقدسي ، زيادة على كتاب (معجم ما استعجم ) للبكري ، ولعل خير ما وصلنا من كتب الرحلات العربية ، كتاب ( رحلة أبن جبير) لابن جبير الأندلسي ، ويعد كتاب ( معجم البلدان ) لياقوت الحموي بمثابة دائرة معارف جغرافية – إن صح القول – عرَّفت بمواقع الأقاليم والمدن والقرى ، والشابشتي في كتابه ( الديارات ) ، فضلا عن الكثير من المصنفات البلدانية الأخرى والتي لا يتسع المجال لذكرها .
يبتدئ وصف المعالم العمرانية للعراق حسب العلي بمدينة الحيرة التي كانت مجمعاً لقبائل العرب من حِميَر وطي وكَلب وتميم ومع أن سكنها قديم في الحيرة إلا أن بعضها استوطن الحيرة بعد التحرير العربي الإسلامي، حسب ما ذكر ياقوت الحموي في معجمه . ولعل ما يميز الحيرة هو أديرتها وقصورها ، ولعل أشهرها دير هند الصغرى ، وقد بنته هند بنت النعمان بن المنذر ، وهذا الدير من أعظم ديارات الحيرة حسب ما ذكر الشابشتي في كتابه ( الديارات ) وذكر ياقوت الحموي ديراً آخر باسم دير هند الكبرى وقال عنه " ولم يكن في ديارات العرب أحسن بناء منه ..." وهو غير الدير السابق ، وبين أ.د.صالح احمد العلي أن هذه الأديرة لم تكن مواطن للعبادة فحسب بل كانت أماكن للنزه والترفيه عن النفس نظراً لجمال موقعها وطيب هوائها ، زيادة على دقة العلي في التمييز بين أسماء الأديرة ومواقعها كما تقدم الكلام عن دير هند (الكبرى ، والصغرى ).  
ومن أبرز ما في الحيرة من قصور ، القصر الأبيض ، وهو بين الحيرة والنجف وهو إلى الأخيرة أقرب . وكذلك قصر الزوراء وهو قصر بناه النعمان بن المنذر وكان مقابل الحيرة ، وهو أحد قصور الحيرة الأربعة ( قصر بني مازن و قصر الطين و قصر الفرس ).
ولعل أشهر القصور هو قصر الخورنق الذي كان بظهر الحيرة مما يلي الشرق حسب ما ذكر أبن رسته ، وقد لاقى العديد من الإعمار في عهد الدولة العباسية وتردد ذكره في الشعر العربي كثيراً . وإذا ذكرنا الخورنق ، ذُكِرَ قصر السدير ، وهو قصر في وسط البرية التي بين الحيرة وبلاد الشام إلى الشمال الغربي من الحيرة ، ولا ريب أن شهرته أقلُ من الخورنق بدليل اختلاف المتأخرين في أخباره ، فروى ياقوت الحموي انه (السدير) " قصر قريب من الخورنق " وأضاف الشابشتي " أنه قصر عظيم من أبنية ملوك لخم ( المناذرة ) في قديم الزمان وما بقي منه الآن فهو ديارات وبيع للنصارى " ، ووضح أ.د.صالح احمد العلي أن أهمية قصور الحيرة التي ذكرها البلدانيون المسلمون تكمن في كونها تمثل احد اهم عناصر العمارة في المدينة لكون القصور هي أكثر معالم المدينة العمرانية وصفاً عند البلدانيين ، فضلا عن ما جاء عنها من أخبار في كتب التاريخ والأدب وخصوصاً قصري الخورنق والسدير.
ثم ينتقل العلي إلى ذكر منطقتي العذيب والقادسية ، ويقع العذيب حسب ياقوت الحموي غربي القادسية وكلاهما يشكلان حداً لسواد العراق من ناحية الجنوب الغربي لإقليم العراق بدلالة قول ياقوت الحموي عنهما من كونهما حد السواد . وذكر ابن جبير أن العذيب عليه بناء دون أن يحدد لنا صفة هذا البناء . أما القادسية فقد وصفها بعض جغرافيي العرب ، فقال عنها الاصطخري " القادسية مدينة صغيرة " ، وأضاف المقدسي " أن لها حصنا من طين " على أنها قد توسعت زمن أبن جبير فأشاد بكونها " قرية كبيرة " وركز الأستاذ الدكتور صالح احمد العلي على أن هاتين المنطقتين قد مرتا بمرحلتين من حيث ذكرها في كتب البلدانيين ، فالمرحلة الأولى كانت العذيب والقادسية قد تمتعا بأهمية بعد التحرير العربي الإسلامي للعراق ، وخصوصاً بعد معركة القادسية التي انتصرت فيها جيوش العرب المسلمين على الفرس الساسانيين في 13 - 16 شعبان 15 هـ / 19 - 22 سبتمبر 635م بقيادة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص والتي أنهت الوجود الساساني في العراق ، أما المرحلة الثانية فقد مرت كلا المدينتين بتطورات فزادت أهميتهما وخصوصاً في القرنين (6-7 هـ / 12-13م ) بعد وقوعهما على طريق الحج العراقي .

وينتقل الحديث بنا إلى مدينة النجف ، وهي بظهر الكوفة حسب ياقوت الحموي ، وتردد ذكر النجف في الفتوحات الإسلامية الأولى ، وكذلك جاءت عنها بعض الإشارات في العصر الأموي ، وروى البكري في ( معجمه ) أنه كان في النجف محله اسمها دومة ، وبين ياقوت الحموي أن سبب تسميتها بهذا الاسم يعود إلى أن الخليفة عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) لما أجلا اكيدر صاحب دومة الجندل قدم الأخير فبنى حصناً اسماه دومة أيضا ، ويرى العلي أن دومة النجف أقدم من دومة الجندل وأنها كانت القاعدة القديمة لأكيدر على الرغم من عدم امتلاكنا لنصوص دقيقة تبين ملامح العمارة في هذه المحلة إلا أنها حسب العلي كانت تحوي حصناً بدلالة لجوء صاحب دومة الجندل إليها . وفي أسفل النجف يقع دير فاثيون الذي أشتهر بعمارته ، وبين المرحوم أ.د صالح احمد العلي أن هذا الدير امتاز بأهمية موقعه لتوسطه الطريق الواصل بين النجف ودير هند الكبرى من دون وجود تفاصيل واضحة عن معالمه العمرانية لقدم بناءه.
أما منطقة الكوفة فقد كانت لها أهمية خاصة منذ أول إنشائها من قبل العرب المسلمين فكانت موضعاً لسكن المقاتلة ومركزاً فكريا عظيماً فيما بعد ، ولقد زالت معالم كثيرة من هذه المدينة غير أن معظمها لم تزل باقية فذكر ابن جبير في حق عمارتها ما نصه : " هي مدينة كبيرة عتيقة البناء ... وبناء المدينة بالآجر خاصة ولا سور لها والجامع العتيق آخرها مما يلي الشرق وهو جامع كبير ... فما أرى في الأرض مسجداً أطول أعمدة منه ولا أعلى ... ولهذا الجامع المكرم آثار كريمة فمنها ... محراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) والناس يصلون فيه " وبالرغم من وجود بعض التفاصيل عن مدينة الكوفة إلا أن المرحوم الأستاذ الدكتور صالح أحمد العلي قد ذكر أن المعلومات التي قدمها بعض البلدانيون المسلمون كاليعقوبي وأبن الفقيه عن أطراف الكوفة ومحيطها لا تحوي وصفاً شاملاً لاماكن هذه المنطقة .
ومن أبرز المدن التي اشتهرت بقدسيتها الدينية هي مدينة كربلاء التي لا تزال قائمة ومحتفظة بمكانتها الخاصة نظراً لأنها المكان الذي استشهد ودفن فيه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) والذي يتمتع مشهده بمكانة متميزة عند المسلمين إذ يؤمُ مشهده سنوياً مئات الأُلوف من الناس ، ونظراً للمكانة الدينية التي تمتعت بها هذه المدينة فقد بين الأستاذ الدكتور صالح احمد العلي انه قد أُلّفَت في تاريخها ومشاهدها مؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر ( بغية النبلاء في تاريخ كربلاء ) للسيد عبد الحسين الكليدار آل طعمه .
على أن الحلة كانت قد امتازت بعمارتها على عهد حكم الإمارة المزيدية إذ كانت تحوي جامعين ، أحدهما قديم والآخر من بناء الأمير سيف الدين صدقة بن منصور المزيدي ، فضلا عن المساكن الجليلة والدور الفاخرة ، فصارت أفخر بلاد العراق عمارة ، ومقصداً لتجار العراق من كل صوب حسب ياقوت الحموي ، وأوضح الأستاذ الدكتور صالح احمد العلي أن الحلة لا زالت تتمتع بأهمية على مر تاريخها وأكد على أهمية الدراسات الحديثة في التأصيل لكتابة التاريخ المحلي لهذه المدينة وغيرها وأشاد بما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الجبار ناجي في أطروحته للماجستير عن ( الإمارة المزيدية ) التي قامت في القرن ( 5 هـ / 11م) في الحلة بالعراق على يد مؤسسها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الاسدي .
ومن المعلوم أن مدينة واسط التي أنشأها الحجاج بن يوسف الثقفي سنة (81هـ / 700م) للهجرة كانت مركزاً سياسياً وإداريا كبيراً ، وقد ركز الأستاذ الدكتور صالح أحمد العلي  على أهمية الكتب البلدانية في الكتابة عن مدينة واسط وعمارتها والأماكن المحيطة بها وتحديد مواقعها والتي قدمت مادة غنية عنها وخصوصاً في القرنين ( 3-4 هـ / 9-10م) وأكد على أن مادة واسط في كُتب الجغرافيين المتأخرين كمعجم البلدان لياقوت الحموي وآثار البلاد للقزويني قائمة على ما نقل من البلدانيين الاوائل مع معلومات إضافية قليلة نسبياً من قبل المتأخرين . ولقد وصف واسط عدد من البلدانيين العرب فذكر اليعقوبي أن واسط " هي مدينتان  على جانبي دجلة : فالمدينة القديمة في الجانب الشرقي من دجلة وأبتنى الحجاج مدينة في الجانب الغربي ، وجعل بينهما جسراً بالسفن " وأضاف الاصطخري " ... وفي كل جانب مسجد جامع " ، أما ابن رسته فذكر انه بإزاء مسجد الحجاج يوجد " قصره وهو في الجانب الغربي ... وفي قصره قبة مشرفة خضراء " ويتبين مما تقدم إن هؤلاء البلدانيين متفقون على أن واسط تقع في جانبي النهر ، فضلاً عن امتياز كل واحد منهما بنص أو عبارة تكمل وصف البلداني الآخر مما يعطينا صورة متكاملة عن المدينة من الجانب العمراني .
ومن المعالم العمرانية الواقعة في الطرف الشرقي لإقليم العراق هي مدينة النهروان ، وهي المحطة الرئيسة الأولى من بغداد ، وقد وصف اليعقوبي النهروان بأنها بلد جليل قديم ، وذكر ابن حوقل والمقدسي أن الجانب الشرقي من مدينة النهروان أعمر، وفيه الجامع ، وذكر الاصطخري أن النهروان مدينة صغيرة عامرة .
أما مدينة بغداد فهي أكثر بلاد العراق عمارة منذ زمن إنشائها على يد الخليفة أبو جعفر المنصور والتي سميت المدينة المدورة ، وقد نظم الخليفة المنصور مساكن للتجار والمهاجرين الجدد إلى الرقعة الواقعة في جنوب المدينة المدورة وخارج أسوارها وأبتنى لهم مسجداً جامعاً هو جامع الشرقية الذي لا يزال محرابه باقياً وهو معروض في المتحف العراقي، وبنى لهم حوانيت يقيمون فيها صناعتهم ويعرضون فيها سلعهم وتجاراتهم ، ولا ريب أن ما قدمه الأستاذ الدكتور صالح أحمد العلي عن مدينة بغداد وعمارتها يعد كثيراً وغنياً وظهر في عدد من مؤلفاته وخصوصاً ما يتعلق بخطط المدينة .
وذكر ابن خرداذبه وقدامة باروسما وإنتاجيتها مع نهر الملك( احد فروع نهر الفرات مما يلي بغداد ) بوصفهما طسوجاً (*) واحداً مما يدل على قرب المكانين ، وللمكانة الاقتصادية المتميزة التي احتلتها باروسما فقد توسعت عمارتها ،حتى أن ياقوت الحموي ذكر أن " باروسما ناحيتان من سواد بغداد يقال لهما باروسما الأعلى وباروسما الأسفل  " مما يدل على توسع العمارة فيها على الرغم من عدم إعطاء ياقوت الحموي لتفاصيل العمارة في هذه الناحية.
واكتسبت البصرة أهمية كبيرة في زمن التحرير العربي الإسلامي وهي مدينة محدثة من بناء العرب المسلمين كما هو الحال مع الكوفة ، وأشاد بها الكثير من البلدانيين ولعل في طليعتهم البلاذري الذي قدم معلومات مهمة عن بناء مسجد سعد بن أبي وقاص ( رضي الله عنه ) ، وأطلق عليها ياقوت الحموي بصرة العراق تمييزاً لها عن مدينة البصرة ببلاد المغرب العربي ، وأشاد كذلك بمحلاتها وسككها وإنها حد السواد الشرقي للعراق من جهة الجنوب.
(*) الطسوج ، الطسج هو الناحية – مُعَرَّب - (حسب الفيروزابادي في القاموس المحيط ) .

إبن بَازٍ المَوصِليُ مُحَدِثاً (ت:622هـ/1225م)-د.محمد نزار الدباغ


لقد امتلكت  مدينة الموصل عبر تاريخها العربي الإسلامي إرثاً ثقافياً كبيرا في مختلف المعارف والآداب والعلوم والفنون فاقت به وتقدمت على العديد من المدن ، ووصلت إلى أبهى عصورها ما بين القرنين السادس والسابع الهجريين / الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين ، إذ شهدت المدينة اهتماماً بالتعليم الديني وخصوصا ما يتعلق بعلوم القران والتفسير والحديث والفقه على اختلاف مذاهبه ، وما يهمنا في هذه الورقة هو ما يتعلق بعلم الحديث في مدينة الموصل التي فاقت نظيراتها من المدن العربية الإسلامية في هذا المجال إذ كان لها شأواً كبيراً في دراسة وتدريس علم الحديث قولاً وعملاً ، وقد أنجبت مدينة الموصل علماءً أفذاذا ارسوا قواعد هذا العلم الشريف فنجد في طليعتهم العالم الجليل المعافى بن عمران(ت:184هـ/800م) ،وكذلك المحدث عدي بن حرب الطائي(ت:265هـ/869م) وصولاً إلى العالم الذائع الصيت مجد الدين بن الأثير(ت606هـ/1209م) والحقيقة أن هذه النماذج تدرج هنا على سبيل المثال لا الحصروان ما امتلكته المدينة من محدثين هو عدد كبير سواءً أكان من الموصل أو من خارجها .

        إن هذه الورقة تسلط الضوء على عالم مغمور ولد وعاش في مدينة الموصل ذلكم هو أبو عبدالله الحسين بن عمر بن نصر بن باز الموصلي ولم يسلط عليه الضوء كثيراً في كتب التراجم والطبقات ربما لكونه لم يترك لنا مؤلفات ومن المرجح انه لم يكن ممن يطلبون الجاه والاتصال بالملوك والحكام ، عرف عند من ترجم له بابن باز المحدث الموصلي ، ولد في مدينة الموصل سنة (552هـ/1157م) ، وسمع الحديث والعلوم الشرعية بها من والده ، عرف عنه بأنه كان متقناً صادقاً في الرواية ، مفيداً لمن حوله من أقرانه ، طيب العشرة خلوقاً حافظاً لكتاب الله ، وقام برحلات علمية إلى بغداد بين سنتي (571-601هـ/1175-1204م) لأخذ الحديث عن شيوخها الكبار أمثال لاحق بن كاره وشهدة الكاتبة وغيرهم الكثير ثم عاد إلى الموصل ومكث بها مدة ثم اتجه إلى العمل بالتجارة فسافر إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ولم تذكر المصادر طبيعة المواد التي تاجر بها ابن باز الموصلي ، وبعد عودته من مصر الى بلدته (الموصل) درّس الحديث ولم يثنه طلب العلم عن القيام برحلة علمية أخرى ولكن هذه المرة إلى اربل ، ولا نعلم بالتحديد الدافع الذي جعله يزور اربل إلا لدراسته للحديث على يد احد الشيوخ ممن لم تسمهم المصادر ، وبالعودة إلى فهرس مخطوطات كوبريلي في تركيا نجدنا أمام نسخة خطية من كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري كتبها ابن باز لنفسه وربما انه جمع إلى جانب علم الحديث في تدوينه لكتاب جليل مما تقدم ذكره والذي تناول فيه الإمام البخاري الكلام عن شيوخه الذين اخذ عنهم الحديث ،العمل بنسخ الكتب سيما وان ابن باز الموصلي لم يترك لنا مؤلفات كتبها بنفسه فهو كما يقول الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) عالم حافظ محدث سفار يعمل بالتجارة ، والحقيقة أن ما ميز ابن باز هو جمعه لثلاثة أغراض الحديث والرحلة والتجارة ، فالقيمة المستقاة من نسخه لكتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري تضفي عليه صفة أخرى وهو كونه خطاطاً .

        وعند عودته للموصل قادما من اربل تصدر المشيخة في دار الحديث المظفرية بالموصل وهو رابع عالم من حيث التسلسل الزمني الذي تصدر لإقراء الحديث وتدريسه من بين أربعة علماء ذكرهم د.عبد الجبار حامد احمد في رسالته الموسومة ( الحياة العلمية في الموصل في عصر الاتابكة( 521-660هـ/1127-1162م) ، وقد درس على يد ابن باز الموصلي عدد لا بأس به من العلماء في الموصل واربل وبغداد وحلب ومصر ، أمثال الحافظ عبدالله بن محمد بن محمود النجار و أبو البركات ابن المستوفي  والحافظ محمد بن سعيد بن الدبيثي ، وأبو الفضل عباس بن بزوان الاربلي ، والضياء المقدسي وشهاب الدين احمد بن محمد الابرقوهي و كمال الدين عمر بن احمد بن العديم وأخيرا الزكي المنذري وحصل منه على أجازة علمية في الحديث كتبها إليه ابن باز من الموصل سنة (600هـ/1203) ، توفي ابن باز الموصلي بالموصل سنة (622هـ/1225م) تاركا وراءه جلة من العلماء اغتنوا بما أخذوه عن ابن باز من سماعات ومرويات وإجازات بينت ما لهذا العالم الجليل -رغم انعدام تأليفه- من باع طويل في مجال الحديث من دراسة وتدريس وصولا لمشيخة دار الحديث بالموصل .    



 ورقة غلاف كتاب التاريخ الكبير للبخاري - نقلا عن موقع :

ar.wikisource.org‏   

 

السبت، 14 أبريل 2012

الموصل في كتاب المسالك والممالك للبكري (ت:487هـ/1094م)

الموصل

في كتاب المسالك والممالك للبكري
(ت : 487هـ / 1094م)
د.محمد نزار الدباغ
مركز دراسات الموصل/جامعة الموصل

      لقد عني الجغرافيون العرب بتحديد مواضع البلدان والبقاع الكثيرة الواردة في أشعار الجاهليين والإسلاميين وأحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان البحث في أحوال الأقاليم وما تتضمنه من المدن والكور والأعمال وليد النهضة العلمية التي ظهرت في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي .
يعد الكندي أول من كتب في ذلك، ثم ظهر بعده جيل من الجغرافيين في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي يمكن أن نطلق عليهم مجازا المسالكيون ؛ لأنهم درسوا حدود الأرض ومسالكها وألفوا كتبا تحمل عنوان " المسالك والممالك " وهي لأكثر من جغرافي، منهم، ابن خرداذبه، الجيهاني، البلخي، المهلبي، ومحمد الوراق، وكتاب العلم الأخير يعد من ابرز المصادر التي اعتمد عليها البكري في حديثه عن القسم الخاص ببلاد المغرب .
     وفي القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي كان كتاب البكري " المسالك والممالك " موسوعة في البلدان في نسق فريد يجمع بين لحديث عن كتب المسالك ووصف البلدان وعادات الشعوب .
والبكري هو أبو عبيد بن عبد الله بن أبي مصعب … بن عمر البكري، وهو من بيت إمارة كانت لسلفه في غربي جزيرة الأندلس ولد سنة (432هـ / 1033م) بشلطيش غربي اشبيلية وتوفي سنة ( 487هـ / 1094م) بقرطبة . وتظهر شخصية البكري الذي قرر انه لم يرحل ولم يزعم انه رأى أو شاهد وانما جمع ذلك من الكتب التي الفت قبله ولكن أهمية كتابه تكمن في أن اغلب أقسامه كان ضائعا حتى تم جمع مخطوطات الكتاب، وحقق على يد الدكتور جمال طلبة ونشرته دار الكتب العلمية في بيروت بطبعته الأولى سنة 2003 بخلاف إن اعتماد المهتمين بكتب التراث الجغرافي كان على القسم الوحيد المنشور من الكتاب وهو القسم الخاص بالمغرب  الذي طبع على يد المستشرق الفرنسي دي سلان مما يعزز من قيمة النسخة المحققة حديثا المتقدمة الذكر، فضلا عن اعتماد البكري على بعض كتب المسالك والممالك التي لم تصلنا والتي كانت متوفرة في زمن البكري مثل كتاب الجيهاني والمهلبي ومحمد الوراق ويكون بهذا قد نقل لنا قطوفا وشذرات من كتب الجغرافيين  المتقدمي الذكر مما كان له أثره الواضح في قوة توثيق الكتاب لدى البكري .
أما فيما يتعلق بمدينة الموصل في كتاب المسالك والممالك للبكري فأنه  قد أورد نصوصا تتمحور في جانبين، الجانب الاول منهما يتناول الروايات الدينية والجانب الثاني يتناول الروايات الجغرافية . أورد البكري ثلاث روايات دينية تناولت بين طياتها مدينة الموصل، انصبت أول الروايات في الكلام عن استقرار سفينة نوح (ع) على جبل الجودي الذي كان من أرض الموصل، والرواية الثانية اختصت بالكلام عن نبي الله يونس (ع) الذي أرسله الله تعالى إلى قرية من قرى الموصل وهي  نينوى وأشاد بعبادة أهلها للأصنام حتى آمن القوم بيونس (ع) لما أيقنوا بنزول العذاب عليهم فكان من أمر قوم يونس ما نصه الله سبحانه وتعالى في سورة يونس - الآية 98 – ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها أيمانها إلا قوم يونس) . أما الرواية الثالثة فتتحدث عن أحد الرجال الصالحين والمسمى جرجس أو جرجيس وهو رجل من أهل فلسطين وقد عاش في  الفترة بين دعوة نبي الله عيسى (ع) والنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد ارسله الله إلى أحد ملوك الموصل يدعوه للتوحيد فقتله ملك الموصل مرات واحياه الله عز وجل أية لهم وعبرة وقضى الله عليهم بأن سلط عليهم النار فأحرقتهم ونصر الله عبده الصالح جرجس .
أما الجانب الثاني فقد تضمن تسع روايات جغرافية، أولها يتعلق بموقع مدينة الموصل، حيث أشار البكري إلى أنها تقع ضمن مدن الإقليم الرابع . أما الرواية الثانية فتتعلق بنهر دجلة الذي يخرج من ديار بكر ويمر بالموصل . وكانت الرواية الثالثة متعلقة بذكر بلاد العراق والمشهور من مدنها ويأتي الكلام عن الموصل على اعتبار أن أرض آثور - على حد قول البكري- المقصود بها أرض الموصل تشكل الحدود الشمالية لأرض السواد (العراق) التي تنتهي بمدينة البصرة على الخليج العربي . وفي الرواية الرابعة يتكرر الكلام عن حد السواد (العراق) ولكن الاختلاف يرد في تسميات المواضع الجغرافية حيث يذكر البكري أن حد السواد في زمنه يمتد من : " تخوم الموصل مارا إلى ساحل البحر -الخليج العربي- من بلاد عبادان من شرقي دجلة طولا".وخامس الروايات الجغرافية تتعلق ببناء الخليفة أبي جعفر المنصور لمدينة بغداد المدورة وعاصمة الخلافة العباسية حيث استعان بالصناع والبناءين من كبريات مدن الأقاليم ومنها مدينة الموصل . في حين أن الرواية السادسة وعلى الرغم من قصرها إلا إنها تبين حدود إقليم الجزيرة الفراتية في زمن البكري التي تقع بين نهر دجلة والموصل . والرواية السابعة تتعلق بصفة أهل الموصل والحوار يدور بين الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان ورجل من خاصته يدعى عبد الله بن الكواء، قال البكري : " قال-معاوية- فأخبرني عن أهل الموصل، قال-الكواء- : قلادة وليدة فيها من كل خرز " . وعلى الرغم مما نلاحظه من قصر في وصف العبارة إلا أن لها معاني ودلالات بليغة تدل على مكانة أهل الموصل وحسن أخلاقهم وشجاعتهم وحسن استقبالهم للضيف . وتضمنت الرواية الثامنة تعداد لأسماء كور الموصل كتكريت، الطيرهان، الحديثة، المرج، باجلى، واخيرا باجرمى . أما الرواية التاسعة والأخيرة فترشدنا إلى فوائد الإقامة في الموصل مع ذكر لأسماء كور أخرى تتبعها مما لم يورده البكري في الرواية السابقة، قال البكري : " وقد زعموا أن من أقام بالموصل حولا… فتفقد قوته وجد منه فضلا . ومن كورها -الموصل- مدينة الحضر، نينوى، بادقل، حزة، انفاس، دقوقا، البوازيج، جامحال، تامر، بازبدى، اخشور ".       



ضرورة الحفاظ على الاناجيل القديمة

تمثل الاناجيل القديمة ثروة وطنية وقومية فضلا عن مكانتها الدينية ، وخصوصا القديمة منهاوالتي تؤرخ ايضا لفترات ما قبل الاسلام من حيث قيمتها ومضمونها وطريقة تدوينها ونوع الورق والجلد الذي كتبت فيه مواد اسفارها ويمتلك العراق ودول الجوار نماذج تمثل ذروة ما وصل اليه فن تدوينها وتزويقها الفني وهذه صورة لاحد الاناجيل المخطوطة التي لا يعرف بالضبط وقت كتابتها .