تتحدّث هذه المساهمة عن أحد وجوه القرّاء الكبار ومشاهير علماء القراءات وأصحاب الرحلات الطوال، هو أبو القاسم يوسف بن عليّ بن جُبَارة الهُذَلـيّ البِسْكِريّ المغربـيّ النحويّ (403-465ه/1012-1073م). لقد ٱشْتُهِرَ وذاع صيته لأمرين جليلين، تفرّد بهما. الأوّل موسوعته القِرَائِيَّة الموسومة بكتاب الكامل فـي القراءات الخمسين (ط) التي جمع فيها خمسين قراءة عن أئمّة الأمصار الخمسة من 1459 روايةً وطريقًا مُودِعًا فيها زبدة معارفه وجملة تجاربه وحصيلة رحلته، فجعلها جامعةً للطرق والروايات المتلوّة والقراءات المشهورة وغيرها وفرّغ فيها كلَّ ما ألّفه فـي علوم القراءات من تصانيف، كالوجيز والهادي. أمّا الأمر الآخر، فرحلتُهُ الكبرى طلبًا للعلم، خصوصًا طلب القراءات. لقد قام برحلة طويلة، دامت ثلاثًا وأربعين سنةً، ٱنطلقت من بلاد المغرب ٱبتداءً ببِسْكِرَة (مدينة وعاصمة ولاية بالجزائر اليوم) وٱمتدّت إلـى أواسط آسيا ٱنتهاءً بأُوش، من كبرى مدن دولة قيرغيزستان اليوم. لقد إشار إليها فـي ديباجة كتاب الكامل المذكور آنفًا بوصف وجيز بالغ العبارة كالآتـي: «من آخر المغرب إلـى باب فَرْغَانَةَ يَـمِينًا وشِـمَالًا وجَبَلًا وبَـحْرًا. ولو علمتُ أحدًا تَقَدَّمَ عَلَيَّ فـي هذه الطبقة فـي جميع بلاد الإسلام، لَقَصَدْتُهُ». لذلك أشاد العديد مـمّن ترجم له بترحاله وٱعتبروه خارقًا للعادة. منهم الإمام الذهبـيّ (ت748ه) الذي وصفه ورحلتَهُ غير المعهودة بإعجاب كبير فـي ترجمته فـي تاريخ الإسلام ط46/513: «أحد الجوّالين فـي الدنيا فـي طلب القراءات، لا أعلم أحدًا رحل فـي طلب القراءات، بل ولا الحديث أوسع من رحلته؛ فإنّه رحل من أقصى الغرب إلى أن ٱنتهى إلـى مدينة فرغانة، وهي من بلاد التُّرك». كذلك أشاد الإمام ابن الجزريّ (ت833ه) من جهته بهذا الترحال غير المسبوق، فوصف صاحبه بأعلى الألقاب والدرجات فـي بداية ترجمته فـي غاية النهاية 2/397: «الأستاذ الكبير الرحّال والعَلَم الشهير الجوّال»، ثـمّ تطرّق إلـى الحديث عن تطوافه مع بالغ التقدير قائلًا : «طاف البلاد فـي طلب القراآت؛ فلا أعلم أحدًا فـي هذه الأمّة رحل فـي القراآت ولا لَقِيَ مَنْ لَقِيَ من الشيوخ» [غاية النهاية 2/398]، ثـمّ نقل بعض كلامه بصدد رحلته من كتاب الكامل خاتـمًا ذلك كلّه بتعليق بليغ، عبّر فيه عن عُمْق إعجابه وعِظَمِ تقديره لمثل هذه الجهود الجبّارة : «قلتُ: كذا ترى هِممَ السادات فـي الطلب» [هناك]. تأتـي هذه المساهمة لتقف وقفة تفصيليّة على مراحل رحلته ومحطّاتها مع مراعاة تسلسلها حسب المناطق والأقاليم، ولتسلّط الضوء على تحصيله الثقافـيّ ومدارك معارفه الواسعة وتجاربه المكتسبة أثناء رحلته عديمة النظير مع تتبُّع أبرز الشيوخ الذين لقيهم وقرأ عليهم وسـمع منهم والبالغ عددهم جملةً 365 شيخًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق