لقد امتلكت مدينة الموصل عبر تاريخها العربي الإسلامي إرثاً ثقافياً كبيرا في مختلف المعارف
والآداب والعلوم والفنون فاقت به وتقدمت على العديد من المدن ، ووصلت إلى أبهى
عصورها ما بين القرنين السادس والسابع الهجريين / الثاني عشر والثالث عشر
الميلاديين ، إذ شهدت المدينة اهتماماً بالتعليم الديني وخصوصا ما يتعلق بعلوم
القران والتفسير والحديث والفقه على اختلاف مذاهبه ، وما يهمنا في هذه الورقة هو
ما يتعلق بعلم الحديث في مدينة الموصل التي فاقت نظيراتها من المدن العربية
الإسلامية في هذا المجال إذ كان لها شأواً كبيراً في دراسة وتدريس علم الحديث
قولاً وعملاً ، وقد أنجبت مدينة الموصل علماءً أفذاذا ارسوا قواعد هذا العلم
الشريف فنجد في طليعتهم العالم الجليل المعافى بن عمران(ت:184هـ/800م) ،وكذلك المحدث
عدي بن حرب الطائي(ت:265هـ/869م) وصولاً إلى العالم الذائع الصيت مجد الدين بن
الأثير(ت606هـ/1209م) والحقيقة أن هذه النماذج تدرج هنا على سبيل المثال لا الحصروان ما امتلكته المدينة من محدثين هو عدد كبير سواءً أكان من الموصل أو من خارجها
.
إن هذه الورقة تسلط الضوء على عالم مغمور
ولد وعاش في مدينة الموصل ذلكم هو أبو عبدالله الحسين بن عمر بن نصر بن باز
الموصلي ولم يسلط عليه الضوء كثيراً في كتب التراجم والطبقات ربما لكونه لم يترك
لنا مؤلفات ومن المرجح انه لم يكن ممن يطلبون الجاه والاتصال بالملوك والحكام ،
عرف عند من ترجم له بابن باز المحدث الموصلي ، ولد في مدينة الموصل سنة (552هـ/1157م)
، وسمع الحديث والعلوم الشرعية بها من والده ، عرف عنه بأنه كان متقناً صادقاً في
الرواية ، مفيداً لمن حوله من أقرانه ، طيب العشرة خلوقاً حافظاً لكتاب الله ، وقام
برحلات علمية إلى بغداد بين سنتي (571-601هـ/1175-1204م) لأخذ الحديث عن شيوخها
الكبار أمثال لاحق بن كاره وشهدة الكاتبة وغيرهم الكثير ثم عاد إلى الموصل ومكث
بها مدة ثم اتجه إلى العمل بالتجارة فسافر إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ولم تذكر
المصادر طبيعة المواد التي تاجر بها ابن باز الموصلي ، وبعد عودته من مصر الى
بلدته (الموصل) درّس الحديث ولم يثنه طلب العلم عن القيام برحلة علمية أخرى ولكن
هذه المرة إلى اربل ، ولا نعلم بالتحديد الدافع الذي جعله يزور اربل إلا لدراسته
للحديث على يد احد الشيوخ ممن لم تسمهم المصادر ، وبالعودة إلى فهرس مخطوطات
كوبريلي في تركيا نجدنا أمام نسخة خطية من كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري
كتبها ابن باز لنفسه وربما انه جمع إلى جانب علم الحديث في تدوينه لكتاب جليل مما
تقدم ذكره والذي تناول فيه الإمام البخاري الكلام عن شيوخه الذين اخذ عنهم الحديث
،العمل بنسخ الكتب سيما وان ابن باز الموصلي لم يترك لنا مؤلفات كتبها بنفسه فهو
كما يقول الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) عالم حافظ محدث سفار يعمل بالتجارة
، والحقيقة أن ما ميز ابن باز هو جمعه لثلاثة أغراض الحديث والرحلة والتجارة ، فالقيمة
المستقاة من نسخه لكتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري تضفي عليه صفة أخرى وهو
كونه خطاطاً .
وعند عودته للموصل قادما من اربل تصدر
المشيخة في دار الحديث المظفرية بالموصل وهو رابع عالم من حيث التسلسل الزمني الذي
تصدر لإقراء الحديث وتدريسه من بين أربعة علماء ذكرهم د.عبد الجبار حامد احمد في
رسالته الموسومة ( الحياة العلمية في الموصل في عصر الاتابكة(
521-660هـ/1127-1162م) ، وقد درس على يد ابن باز الموصلي عدد لا بأس به من العلماء
في الموصل واربل وبغداد وحلب ومصر ، أمثال الحافظ عبدالله بن محمد بن محمود النجار
و أبو البركات ابن المستوفي والحافظ محمد
بن سعيد بن الدبيثي ، وأبو الفضل عباس بن بزوان الاربلي ، والضياء المقدسي وشهاب
الدين احمد بن محمد الابرقوهي و كمال الدين عمر بن احمد بن العديم وأخيرا الزكي
المنذري وحصل منه على أجازة علمية في الحديث كتبها إليه ابن باز من الموصل سنة
(600هـ/1203) ، توفي ابن باز الموصلي بالموصل سنة (622هـ/1225م) تاركا وراءه جلة
من العلماء اغتنوا بما أخذوه عن ابن باز من سماعات ومرويات وإجازات بينت ما لهذا
العالم الجليل -رغم انعدام تأليفه- من باع طويل في مجال الحديث من دراسة وتدريس
وصولا لمشيخة دار الحديث بالموصل .
ورقة غلاف كتاب التاريخ الكبير للبخاري - نقلا عن موقع :
ar.wikisource.org
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق