أ.د.صالح احمد العلي ودراسته لمعالم العراق العمرانية-د.محمد نزار الدباغ
تعد المصنفات البلدانية مورداً مهماً لدراسة تاريخ
العراق إبان عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية والتي تحدد بصورة دقيقة أو
تقريبية المواضع والمعالم العمرانية ، وإن ما نقصده بالمصنفات البلدانية هي تلك
الكتب التي تعنى بالجغرافيا والبلدان والرحلات ، والتي تمتاز عن المصنفات
التاريخية بمعاصرتها للحدث كون البلداني هو شاهد عيان لكل ما مرّ به أثناء رحلاته
وتنقلاته بين الأقاليم والمدن والقرى .
وسينصب تركيزنا في هذه الورقة على تناول هذه المصنفات باعتبارها
مصدراً لدراسة كل ما يتعلق بمعالم العراق العمرانية من جوامع ومساجد وأديرة وكنائس
وقصور وقلاع وأسوار وأسواق وغيرها من عناصر العمارة في المدينة العربية الإسلامية
.
وكل هذه الكتب البلدانية بحثت في أقاليم الدولة العربية الإسلامية
، وخص منها العراق بفصول مقتضبة فيها معلومات ليست بالواسعة أو الشاملة ، لكنها امتازت
بالدقة والوضوح والموضوعية . وإن الحدود الجغرافية للعراق التي نقصدها في هذه
الورقة تشمل إقليم العراق ( وليس العراق بحدوده الحالية ) والذي كان يشمل آنئذٍ كل
المدن الواقعة بين وسط وجنوب العراق ، من بغداد وحتى البصرة ، مروراً بواسط والحلة
والكوفة والنجف والحيرة والقادسية ، زيادة
على العديد من المدن القرى الأخرى والتي لا يتسع المجال لذكرها كونها كثيرة ، لذا
سنقتصر على إيراد المهم منها من خلال ما جاء عنها من نصوص ذكرت في المصنفات
البلدانية .
ووقع اختيارنا على كتاب ( معالم العراق العمرانية ) ، للمرحوم
الأستاذ الدكتور صالح أحمد العلي ، ليكون
المعين الذي ننهل منه في بيان أهمية هذه المصنفات البلدانية في دراسة معالم
العراق العمرانية والتي امتازت بتنوعها .
ولعل أشهر ما وصلنا من الكتب القديمة التي عنيت بوصف والبلدان
والتي اعتمد عليها أ.د صالح احمد العلي كموارد في دراسته عن إقليم العراق
عمرانياً هي كتاب(البلدان) لليعقوبي ،
والذي وصلتنا منه نسخة ناقصة ، وكتاب ( التنبيه والإشراف ) للمسعودي ، و( المسالك
والممالك ) لأبن خرداذبه ، وكتاب ( المسالك والممالك ) للأصطخري ، وكتاب ( الخراج
وصنعة الكتاب ) لقدامة بن جعفر ، فضلاً عن كتاب أبن الفقيه الهمذاني والمعنون ب (
مختصر كتاب البلدان ) ، زيادة على كتاب ( فتوح
البلدان ) للبلاذري ، و ( الاعلاق النفيسة ) لأبن رسته ، وكذلك كتاب " أحسن
التقاسيم في معرفة الأقاليم ) للمقدسي ، زيادة على كتاب (معجم ما استعجم ) للبكري
، ولعل خير ما وصلنا من كتب الرحلات العربية ، كتاب ( رحلة أبن جبير) لابن جبير الأندلسي
، ويعد كتاب ( معجم البلدان ) لياقوت الحموي بمثابة دائرة معارف جغرافية – إن صح
القول – عرَّفت بمواقع الأقاليم والمدن والقرى ، والشابشتي في كتابه ( الديارات )
، فضلا عن الكثير من المصنفات البلدانية الأخرى والتي لا يتسع المجال لذكرها .
يبتدئ وصف المعالم العمرانية للعراق حسب العلي بمدينة
الحيرة التي كانت مجمعاً لقبائل العرب من حِميَر وطي وكَلب وتميم ومع أن سكنها
قديم في الحيرة إلا أن بعضها استوطن الحيرة بعد التحرير العربي الإسلامي، حسب ما
ذكر ياقوت الحموي في معجمه . ولعل ما يميز الحيرة هو أديرتها وقصورها ، ولعل
أشهرها دير هند الصغرى ، وقد بنته هند بنت النعمان بن المنذر ، وهذا الدير من أعظم
ديارات الحيرة حسب ما ذكر الشابشتي في كتابه ( الديارات ) وذكر ياقوت الحموي ديراً
آخر باسم دير هند الكبرى وقال عنه " ولم يكن في ديارات العرب أحسن بناء منه
..." وهو غير الدير السابق ، وبين أ.د.صالح احمد العلي أن هذه الأديرة
لم تكن مواطن للعبادة فحسب بل كانت أماكن للنزه والترفيه عن النفس نظراً لجمال
موقعها وطيب هوائها ، زيادة على دقة العلي في التمييز بين أسماء الأديرة
ومواقعها كما تقدم الكلام عن دير هند (الكبرى ، والصغرى ).
ومن أبرز ما في الحيرة من قصور ، القصر الأبيض ، وهو بين
الحيرة والنجف وهو إلى الأخيرة أقرب . وكذلك قصر الزوراء وهو قصر بناه النعمان بن
المنذر وكان مقابل الحيرة ، وهو أحد قصور الحيرة الأربعة ( قصر بني مازن و قصر
الطين و قصر الفرس ).
ولعل أشهر القصور هو قصر الخورنق الذي كان بظهر الحيرة
مما يلي الشرق حسب ما ذكر أبن رسته ، وقد لاقى العديد من الإعمار في عهد الدولة
العباسية وتردد ذكره في الشعر العربي كثيراً . وإذا ذكرنا الخورنق ، ذُكِرَ قصر
السدير ، وهو قصر في وسط البرية التي بين الحيرة وبلاد الشام إلى الشمال الغربي من
الحيرة ، ولا ريب أن شهرته أقلُ من الخورنق بدليل اختلاف المتأخرين في أخباره ،
فروى ياقوت الحموي انه (السدير) " قصر قريب من الخورنق " وأضاف الشابشتي
" أنه قصر عظيم من أبنية ملوك لخم ( المناذرة ) في قديم الزمان وما بقي منه
الآن فهو ديارات وبيع للنصارى " ، ووضح أ.د.صالح احمد العلي أن أهمية
قصور الحيرة التي ذكرها البلدانيون المسلمون تكمن في كونها تمثل احد اهم عناصر
العمارة في المدينة لكون القصور هي أكثر معالم المدينة العمرانية وصفاً عند
البلدانيين ، فضلا عن ما جاء عنها من أخبار في كتب التاريخ والأدب وخصوصاً قصري
الخورنق والسدير.
ثم ينتقل العلي إلى ذكر منطقتي العذيب والقادسية
، ويقع العذيب حسب ياقوت الحموي غربي القادسية وكلاهما يشكلان حداً لسواد العراق
من ناحية الجنوب الغربي لإقليم العراق بدلالة قول ياقوت الحموي عنهما من كونهما حد
السواد . وذكر ابن جبير أن العذيب عليه بناء دون أن يحدد لنا صفة هذا البناء . أما
القادسية فقد وصفها بعض جغرافيي العرب ، فقال عنها الاصطخري " القادسية مدينة
صغيرة " ، وأضاف المقدسي " أن لها حصنا من طين " على أنها قد توسعت
زمن أبن جبير فأشاد بكونها " قرية كبيرة " وركز الأستاذ الدكتور صالح
احمد العلي على أن هاتين المنطقتين قد مرتا بمرحلتين من حيث ذكرها في
كتب البلدانيين ، فالمرحلة الأولى كانت العذيب والقادسية قد تمتعا بأهمية بعد
التحرير العربي الإسلامي للعراق ، وخصوصاً بعد معركة القادسية التي انتصرت فيها
جيوش العرب المسلمين على الفرس الساسانيين في 13 -
16 شعبان 15 هـ / 19 - 22 سبتمبر 635م
بقيادة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص والتي أنهت الوجود الساساني في العراق ، أما
المرحلة الثانية فقد مرت كلا المدينتين بتطورات فزادت أهميتهما وخصوصاً في القرنين
(6-7 هـ / 12-13م ) بعد وقوعهما على طريق الحج العراقي .
وينتقل الحديث بنا إلى مدينة النجف ، وهي بظهر الكوفة
حسب ياقوت الحموي ، وتردد ذكر النجف في الفتوحات الإسلامية الأولى ، وكذلك جاءت
عنها بعض الإشارات في العصر الأموي ، وروى البكري في ( معجمه ) أنه كان في النجف
محله اسمها دومة ، وبين ياقوت الحموي أن سبب تسميتها بهذا الاسم يعود إلى أن
الخليفة عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) لما أجلا اكيدر صاحب دومة الجندل قدم الأخير
فبنى حصناً اسماه دومة أيضا ، ويرى العلي أن دومة النجف أقدم من دومة
الجندل وأنها كانت القاعدة القديمة لأكيدر على الرغم من عدم امتلاكنا لنصوص دقيقة
تبين ملامح العمارة في هذه المحلة إلا أنها حسب العلي كانت تحوي حصناً بدلالة لجوء
صاحب دومة الجندل إليها . وفي أسفل النجف يقع دير فاثيون الذي أشتهر بعمارته ،
وبين المرحوم أ.د صالح احمد العلي أن هذا الدير امتاز بأهمية موقعه لتوسطه
الطريق الواصل بين النجف ودير هند الكبرى من دون وجود تفاصيل واضحة عن معالمه
العمرانية لقدم بناءه.
أما منطقة الكوفة فقد كانت لها أهمية خاصة منذ أول إنشائها
من قبل العرب المسلمين فكانت موضعاً لسكن المقاتلة ومركزاً فكريا عظيماً فيما بعد
، ولقد زالت معالم كثيرة من هذه المدينة غير أن معظمها لم تزل باقية فذكر ابن جبير
في حق عمارتها ما نصه : " هي مدينة كبيرة عتيقة البناء ... وبناء المدينة
بالآجر خاصة ولا سور لها والجامع العتيق آخرها مما يلي الشرق وهو جامع كبير ...
فما أرى في الأرض مسجداً أطول أعمدة منه ولا أعلى ... ولهذا الجامع المكرم آثار
كريمة فمنها ... محراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) والناس
يصلون فيه " وبالرغم من وجود بعض التفاصيل عن مدينة الكوفة إلا أن المرحوم الأستاذ
الدكتور صالح أحمد العلي قد ذكر أن المعلومات التي قدمها بعض البلدانيون المسلمون
كاليعقوبي وأبن الفقيه عن أطراف الكوفة ومحيطها لا تحوي وصفاً شاملاً لاماكن هذه
المنطقة .
ومن أبرز المدن التي اشتهرت بقدسيتها الدينية هي مدينة كربلاء
التي لا تزال قائمة ومحتفظة بمكانتها الخاصة نظراً لأنها المكان الذي استشهد ودفن
فيه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) والذي يتمتع مشهده بمكانة
متميزة عند المسلمين إذ يؤمُ مشهده سنوياً مئات الأُلوف من الناس ، ونظراً للمكانة
الدينية التي تمتعت بها هذه المدينة فقد بين الأستاذ الدكتور صالح احمد العلي
انه قد أُلّفَت في تاريخها ومشاهدها مؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر ( بغية
النبلاء في تاريخ كربلاء ) للسيد عبد الحسين الكليدار آل طعمه .
على أن الحلة كانت قد امتازت بعمارتها على عهد حكم
الإمارة المزيدية إذ كانت تحوي جامعين ، أحدهما قديم والآخر من بناء الأمير سيف
الدين صدقة بن منصور المزيدي ، فضلا عن المساكن الجليلة والدور الفاخرة ، فصارت
أفخر بلاد العراق عمارة ، ومقصداً لتجار العراق من كل صوب حسب ياقوت الحموي ،
وأوضح الأستاذ الدكتور صالح احمد العلي أن الحلة لا زالت تتمتع بأهمية على
مر تاريخها وأكد على أهمية الدراسات الحديثة في التأصيل لكتابة التاريخ المحلي
لهذه المدينة وغيرها وأشاد بما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الجبار ناجي في أطروحته
للماجستير عن ( الإمارة المزيدية ) التي قامت في القرن ( 5 هـ / 11م) في الحلة
بالعراق على يد مؤسسها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الاسدي .
ومن المعلوم أن مدينة واسط التي أنشأها الحجاج بن يوسف
الثقفي سنة (81هـ / 700م) للهجرة كانت مركزاً سياسياً وإداريا كبيراً ، وقد ركز الأستاذ
الدكتور صالح أحمد العلي على أهمية
الكتب البلدانية في الكتابة عن مدينة واسط وعمارتها والأماكن المحيطة بها وتحديد
مواقعها والتي قدمت مادة غنية عنها وخصوصاً في القرنين ( 3-4 هـ / 9-10م) وأكد على
أن مادة واسط في كُتب الجغرافيين المتأخرين كمعجم البلدان لياقوت الحموي وآثار
البلاد للقزويني قائمة على ما نقل من البلدانيين الاوائل مع معلومات إضافية قليلة
نسبياً من قبل المتأخرين . ولقد وصف واسط عدد من البلدانيين العرب فذكر اليعقوبي
أن واسط " هي مدينتان على جانبي دجلة
: فالمدينة القديمة في الجانب الشرقي من دجلة وأبتنى الحجاج مدينة في الجانب
الغربي ، وجعل بينهما جسراً بالسفن " وأضاف الاصطخري " ... وفي كل جانب
مسجد جامع " ، أما ابن رسته فذكر انه بإزاء مسجد الحجاج يوجد " قصره وهو
في الجانب الغربي ... وفي قصره قبة مشرفة خضراء " ويتبين مما تقدم إن هؤلاء
البلدانيين متفقون على أن واسط تقع في جانبي النهر ، فضلاً عن امتياز كل واحد
منهما بنص أو عبارة تكمل وصف البلداني الآخر مما يعطينا صورة متكاملة عن المدينة
من الجانب العمراني .
ومن المعالم العمرانية الواقعة في الطرف الشرقي لإقليم
العراق هي مدينة النهروان ، وهي المحطة الرئيسة الأولى من بغداد ، وقد وصف
اليعقوبي النهروان بأنها بلد جليل قديم ، وذكر ابن حوقل والمقدسي أن الجانب الشرقي
من مدينة النهروان أعمر، وفيه الجامع ، وذكر الاصطخري أن النهروان مدينة صغيرة
عامرة .
أما مدينة بغداد فهي أكثر بلاد العراق عمارة منذ زمن إنشائها
على يد الخليفة أبو جعفر المنصور والتي سميت المدينة المدورة ، وقد نظم الخليفة
المنصور مساكن للتجار والمهاجرين الجدد إلى الرقعة الواقعة في جنوب المدينة
المدورة وخارج أسوارها وأبتنى لهم مسجداً جامعاً هو جامع الشرقية الذي لا يزال
محرابه باقياً وهو معروض في المتحف العراقي، وبنى لهم حوانيت يقيمون فيها صناعتهم
ويعرضون فيها سلعهم وتجاراتهم ، ولا ريب أن ما قدمه الأستاذ الدكتور صالح أحمد
العلي عن مدينة بغداد وعمارتها يعد كثيراً وغنياً وظهر في عدد من مؤلفاته
وخصوصاً ما يتعلق بخطط المدينة .
وذكر ابن خرداذبه وقدامة باروسما وإنتاجيتها مع نهر
الملك( احد فروع نهر الفرات مما يلي بغداد ) بوصفهما طسوجاً (*) واحداً
مما يدل على قرب المكانين ، وللمكانة الاقتصادية المتميزة التي احتلتها باروسما
فقد توسعت عمارتها ،حتى أن ياقوت الحموي ذكر أن " باروسما ناحيتان من سواد
بغداد يقال لهما باروسما الأعلى وباروسما الأسفل
" مما يدل على توسع العمارة فيها على الرغم من عدم إعطاء ياقوت الحموي
لتفاصيل العمارة في هذه الناحية.
واكتسبت البصرة أهمية كبيرة في زمن التحرير العربي الإسلامي
وهي مدينة محدثة من بناء العرب المسلمين كما هو الحال مع الكوفة ، وأشاد بها
الكثير من البلدانيين ولعل في طليعتهم البلاذري الذي قدم معلومات مهمة عن بناء
مسجد سعد بن أبي وقاص ( رضي الله عنه ) ، وأطلق عليها ياقوت الحموي بصرة العراق
تمييزاً لها عن مدينة البصرة ببلاد المغرب العربي ، وأشاد كذلك بمحلاتها وسككها وإنها
حد السواد الشرقي للعراق من جهة الجنوب.
(*) الطسوج ، الطسج هو الناحية – مُعَرَّب - (حسب
الفيروزابادي في القاموس المحيط ) .