منهج الرحالة المسلمين ..
في التعريف بالأمصار... السودان نموذجًا :
الدكتورمروان الجاسمي الظفيري
{نصّ المحاضرة التي ألقيت في الجلسة الثالثة ...
وذلك في ندوة السودان وأفريقيا في مدونات الرحالة العرب والمسلمين : ـ دورة ابن حوقل ـ في الفترة من : 11 ـ 15 فبراير 2006 م ؛ برعاية سامية من السيد رئيس الجمهورية ...
تحت شعار :
اكتشاف الذات والآخر ...}
الحديث عن بلاد السودان لا تكفيه دقائق ولا جملة محاضرات.
ولو أني ادعيت هذا لغمطت حق بلاد طولها سنة وعرضها سنة.
كما أنني لا أستطيع الإحاطة بكتب الرحالة الذين تعرّضوا لوصف بلاد السودان لأنهم كثيرون والحمدلله.
ولهذا اخترت أهمهم، أو جانباً منهم، والذي يشفع لي أن بعضهم نقل عن بعضهم الآخر .
وقد كانت " بلاد السودان " معروفة لدى العرب والمسلمين، بما جرى فيها من أحداث تاريخية، وغزوات عريقة في القدم، بدءاً بعقبة بن نافع.
وكانوا في المشرق يعرفون طبيعة بلاد السودان، ومعظم طبيعة أهلها .
فعندما امتنع البجه من دفع الإتاوة إلى عامل مصر فكر المتوكل العباسي بأن يأمر عامله هناك بغزوهم، فقيل له:" يا أمير المؤمنين إنهم قوم أهل إبل وبادية، وإن بلادهم بعيدة ومعطشة، ويحتاج الجيش الذاهبون إليها أن يتزوّدوا لمقامهم بها طعاماً
وماءً".
وقد وردت الأسماء: مالي، غانة، النوبة، بجاوة، تكرور، الحبشة، دُنقلة، بلاد التبر، البجه، وغيرها في معظم كتب الرحلات، والجغرافية، والتاريخ، مراراً.
وعلى عادة العرب لم يتركوا مصراً أو بلدة أو قرية إلا كتبوا عنها، وفصّلوا –أو أوجزوا- في دقائقها، سواء دخلها الإسلام أو لم يدخل، وسواء كانت بلاد سلم أو بلاد حرب.
وكان بعضهم يعالج الإقليم كاملاً فيعرف به وبكل ما يضم من طبيعة، ومجتمعات، وزراعات، وحيوانات كابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار".
وبعضهم يعرف بالأعلام والمعارك والمواقع كياقوت، وأبي الفداء.
بلاد السودان:
بلاد السودان تعبير رحب فضفاض عند الرحالة المسلمين، كانوا يطلقونه على معظم القارة الإفريقية ولا سيما أوسطها.
ثم خُصّ هذا التعبير بدولة السودان دون غيرها، مع أن المؤرخين الإسلاميين كانوا يدعونها بلاد النوبة والبجة.
وهم حين يتكلمون على السودان يبدؤون بالمساحة الكبرى من المحيط إلى النيل، ثم يأخذون بالحديث عن البلاد بلداً بلداً أو إقليماً إقليماً جغرافياً، وطبيعياً، واقتصادياً، واجتماعياً.
ولعل الإصطخري أقدم من كتب عن السودان بصفحة واحدة، فاستطاع أن يحدد البلاد فقال:" وبلدان السودان بلدان عريضة، إلا أنها قفرة قشِفة جداّ".
وذكر الفاكهة فرآها نوعين: نوعاً ينمو على الجبال هو مما يكون في بلاد الإسلام، إلا أنهم لا يَطعمونه.
ونوعاً لا يعرف في بلاد الإسلام، هو الذي يتغذون منه.
ويحدد مساحتهم فيقول:" يمتدون إلى قرب البحر المحيط مما يلي الجنوب (وهو الوحيد الذي ذكر الجنوب)، ومما يلي الشمال على مفازة تنتهي إلى مفاوز مصر من وراء الواحات، ثم على مفاوز بينها وبين أرض النوبة، ثم على مفاوز بينها وبين أرض الزنج.
وليس لها اتصال بشيء من الممالك والعمارات إلا من وجه المغرب، لصعوبة المسالك بينها وبين سائر الأمم.
فقد قصر الإصطخري حديثه على امتداد رقعة بلادهم والمفازات من غير أن يحدد طول البلاد وعرضها.
ويرى ابن حوقل أن هذه المفازات السوداء "تكون بين دَبَرته وبلاد الزنج براريّ عظيمة ورمال كانت في سالف الزمان مسلوكة.
وأول الرحالة المسلمين المعروفين ابن الفقيه (ت 290هـ) نراه يتكلم عليها ولم يرها، ولذلك يبدأ كلامه بـ "قالوا" ولم يحدد. فيصف الأراضي بين مصر وغانه، "وإذا جاوزت بلاد غانة إلى أرض مصر انتهيت إلى أمة من السودان يقال لها كَوكَو، ثم إلى أمة يقال لها مَرَندَة، ثم إلى أمة يقال لها مُراوة، ثم إلى واحات مصر"
فهو يسير بحديثه عرضاً من غانة غرباً إلى مصر شرقاً، ولم يعتبر غانة من بلاد السودان.
ويريحنا إسحاق بن الحسين في تعريفه لبلاد السودان فيقول: "وهي كبيرة واسعة آخذة في الطول من بحر المغرب إلى بحر قُلزم. وهي عظيمة جليلة وبين مدينة غانة وبلاد النوبة بلاد كثيرة الصحارى ورمال".
فدمج بلاد النوبة ، والحبشة، وغانة ، وزغاوة ، وكوس ، وكَوكو ، وعلوة، في صفحة واحدة وبعض الصفحة، لكنه آتى على معلومات قد يكون انفرد بها عن غيره.
وأهم ما اعتنى به إسحاق أنه حدّد بع المواقع، فقال: "ومن مدائنهم مدينة زغاوة، وهي حدود بلاد النوبة على النيل، ومدينة كوس، ومدينة علوة في بلاد النوبة. وبلاد النوبة على الخليج الذي بين النيل والنهر الذي يأتي من تحت خط الاستواء. وما خلف هذه البلدان في الجنوب فغير مسكونة لشدة الحر فيها". وهذا تحليل جغرافي مهم، لمؤرخ رحالة ألف كتاباً صغيراً في غاية الإيجاز.
والمنهج الذي اتبعه القزويني (ت682هـ) منهج معظم الرحالة المشهورين؛ فقد عاش في القرن السابع، وألمّ بكتب الرحلات التي نضجت وعظمت.
ويكاد القزويني يعد من ألمع من كتب عن بلاد السودان، ووصف طبيعتها، وأشار إلى أرض الذهب.
واستطاع أن ينقل القارئ من فكرة إلى أخرى نقلاً عمن شاهد تلك البلاد، من غير أن يذهب إليها بنفسه. وأتى بآراء ومعلومات قريبة من الصدق، فيها الكثير من الجدّة والندرة، وأيضاً نقلاً عن مشاهد زائر.
وبعد أن يتكلم على بلاد السودان بعامة، يفرد البحث الموجز عن تكرور، وغانة، وبلاد التبر (الذهب).
فبلاد السودان عند القزويني "كثيرة، وأرض واسعة، ينتهي شمالها إلى أرض البربر، وجنوبها إلى البراري، وشرقها إلى الحبشة، وغربها إلى البحر المحيط".
ثم ينتقل إلى البيئة والطبيعة فيراها –كما يراها غيره- بأن "أرضها محترقة لتأثير الشمس فيها، والحرارة بها شديدة جداً، لأن الشمس لا تزال مُسامتة لرؤوسهم".
ولا بد لكل رحالة من أن يذكر الذهب كما يذكر عريهم لكثرته، فيقول القزويني: إن "أرضهم منبت الذهب".
ويذكرون كذلك الفيلة، والزرافة، والكركدن.
وينفرد –نقلاً عن الفقيه علي الجنحاني المغربي- بأن أهلها اتخذوا بيوتهم على الأشجار العظيمة –التي لم يذكرها غيره- خوفاً من الأرَضة لكثرتها، ولا يتركون شيئاً من الأثاث والطعام على وجه الأرض إلا وأفسده الأرضة.
منهج الرحالة في تدويناتهم:
نشأ أدب الرحلات الجغرافية في أواخر القرن الثالث الهجري، في عصر ازدهار التأليف والتدوين في العصر العباسي، وككل عمل إبداعي لم يكن هذا النوع من التأليف ذا منهج علمي دقيق في بواكيره، إذ ينقصه التنظيم العلمي.
فقد كان الأوائل يصبون معلوماتهم وخواطرهم بين دفتي الكتاب من غير تنظيم أو دقة، ويلطون وصف الأقاليم بغيرها.
فابن الفقيه (ت 290هـ) بعد أن تكلم على مصر، وبالتحديد على مدينة "بِنها"، يُقحم سطرين عن أمة السودان، لينتقل بتدوينه مباشرة عن مدينة " تدمير " بالأندلس.
ومن الأوائل أيضاً الإصطخري (ت 346هـ)، وكان أحد المبدعين.
فمع أن مصادر علم البلدان لم تكن موفورة حتى زمانه، فإنه ألف كتابين هما "صور الأقاليم" و "مسالك الممالك" الذي يظن أنه انتحله عن أبي زيد البلخي.
وسرعان ما نرى هذا الفن يرقى على أيدي عدد كبير، ويأخذ منهجاً دقيقاً.
ففئة نظمت كتبها على أساس التعريف بالأماكن، مرتبة ترتيباً معجمياً كاقوت والبكري.
وفئة اتخذت منهج مسح الأرض مسحاً جغرافياً منظماً كما فعل ابن حوقل في "صورة الأرض" .
على أن الفئة العظمى هي التي ألفت كتب رحلاتها على أساس الأقاليم، واستعراض دقائق كل إقليم على حدة، كما فعل القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد" بشكل موسوعي.
وقال في خاتمة كتابه: "إلى ها هنا انتهى علم أهل بلادنا، والله أعلم بما وراء ذلك من البلاد والبحار".
وكما فعل ابن فضل الله العمري، إذ قسم كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" إلى أسفار، جعل السفر الرابع منه في اليمن، وشماليّ إفريقية، ووسطها، والأندلس.
وقد بدأ العمري تأليف كتابه هذا سنة 738هـ، واستمر على تأليفه حتى سنة وفاته، ومات ولم يتمه.
واعتمد في تصنيفه على من سبقه من المؤلفين ولا سيما ابن سعيد، ومصادر أخرى خطية وشفهية، ولا سيما من زاروا تلك الممالك.
وتأتي أهمية كتابه في أنه ذكر مصادر تعد من النصوص المهمة المفقودة الآن.
ويبلغ هذا اللون من التأليف القمة على يد علي بن موسى، المعروف بابن سعيد المغربي (ت 685هـ).
فقد كان عالماً في ميدانه، دقيقاً في تصنيفه، وله كتب في الرحلات والجغرافية أحدها "بسط الأرض في الطول والعرض".
ويدل عنوان كتابه على أنه مسح الأرض المعمورة كلها.
وقد دل حديثه المطول عن بعض بلاد السودان، على أنه عالم جغرافي ورحالة في غاية الدقة؛ فهو يصور الأرض التي يراها أو يدرسها، كما يفعل ابن حوقل في "صورة الأرض"، بل ادق منه كثيراً.
وكتابه هذا أشهر الأسماء وروداً واعتماداً في كتب المشارقة والمغاربة على السواء، ومعظمهم نقلوا عنه، بل نقل عنه المغاربة أيضاً كابن خلدون في حديثه عن "بجاوة".
وهو في بسطه لبعض أراضي السودان يدل على أنه جغرافي أكثر من كونه رحالة سائحاً؛ فهو لا يكاد يشرح ما يشرحه مؤلفو الرحلات من وصف لطبيعة البلاد، وللأمم، وعاداتهم، وما يتهمون له، ويختصون به.
فهو يساير قارئه في الطريق التي يسلكها، ويحدد له موقع كل بلدة
وقرية ونهر ورافد، ويذكر له مواقعه من خط الإستواء، وما يقع دوينها أو بعيداً عنها، كقوله عن التكرور:
"وموضوع مدينة تكرور حيث الطول 17درجة والعرض 13درجة و30دقيقة ". ثم يقول:" وأول ما يلقاك منه –يريد الإقليم الأول- مدينة بريسا، وهي آخر بلاد التكرور. وعلى شمالي النيل حيث الطول 22 والعرض 13درجة و 30دقيقة".
ويعرف بمنطقة جبل لمى فيقول: "وجبل لمى امتداده من الغرب إلى الشرق 8مراحل، يخرج من طرفه الغربي نهر لمى المذكور، فيمر في عمائر حتى يصب في النيل. ويخرج من طرفه الشرقي نهر ملل، ويتقوس حتى يمر على مدينة ملل..... وعرض مدينة لمى 26درجة، ونهرها يصب في النيل في سمت مدينة درهم من مدن الكفار المهملين".
ويمضي ابن سعيد في تحليله الجغرافي الدقيق عن تكرور وما تضم من مواقع، وكأنه يرسم لك كلامه على مصور دقيق.
ويفعل الأمر نفسه في مدينة غانة، وجزيرة التبر.
ويعدد أسماء المدن التي تضمها هذه الجزيرة، مثل: سمغارة، غيارو، نمنم، مجالات، نقارة.... ويعرّف ببعضها تعريفاَ جغرافياً موجزاً.
ويستمر في وصفه هذا بأكثر من أربعين صفحة بالدقة نفسها.
ولم يكتف ابن سعيد بالوصف الجغرافي، بل جنح إلى بعض الإشارات التاريخية، وبعض العادات.
ومع أن أن ما ذكره دقيق ومهم للغاية إلا أنه في معلوماته غير الجغرافية مُقِلّ.
ولا نشك في أنه يعرف أكثر مما ذكر، لكن مخططه هو الإفاضة في بسط الأرض، والتعليق ما أمكن.
ويدل منهجه ومضمون عمله على ترتيب وتنظيم وخبرة في الأراء.
فهو يضع المعلومة في مكانها حين حين يعرّف الموقع جغرافياً، ولا ينثر المعلومات نثراً، ولا يخلط كما خلط العمري مثلاً. من ذلك:
1- حين يتكلم على التكرور يقول: "وأولُ ما يلقاك على غربي النيل من مدائن التكرور مدينة قلنبوا، وهي فرضة مشهورة، وكانت في زمن أبي عبيد البكري للكفار. وأما في عصرنا فما على شاطئ النيل من بلاد التكرور مدينة إلا ودخلها الإسلام".
2- وهو لا يكتفي، كما قال غيره بأن لباسهم الجلود، بل قال مفصلاً: "والغالب على لباس السودان التكرور وغيرهم الجلود. وإذا احتشى الواحد منهم كان الجلد مدبوغاً. ومن خالط البيض وتخصص اتخذ لباسه من الصوف والقطن، وذلك مجلوب لهم".
3- ويفضّل في مسألة سلاحهم المشهور الذي فقأ أعين المجاهدين فيقول: "وسلاحهم دبابيس الأبنوس وهو كثير على النيل.... ولهم قسي وسهام من القصب الشكري، ومنه يصنعون أوتارها. والبقلة التي يسمون بها سلاحهم كثيرة على شطوط نيلهم".
4- وحين يتحدث عن بحيرة كوري يعطيك معلومتين هما في غاية الدقة:
أ- معلومة جغرافية في قوله: "وفي هذا الجزء الثالث بحيرة كوري التي يخرج منها نيل مصر، ونيل مقدشو، ونيل غانة".
ب- معلومة تاريخية واجتماعية: "ويحدق بها من جميع جهاتها أمم طاغية من السودان الكفرة الذين يأكلون الناس.... ويجاورهم من الجانب الغربي جابي، وهم الذين يبردون أسنانهم. وإذا مات لهم ميت دفعوه إلى جيرانهم يأكلونه، وكذلك يفعل معهم جيرانهم....."
وقد اطلع ابن سعيد على ما كتبه بطليموس عن هذه المناطق، وكان يشير إلى ذلك، من ذلك حين ذكر مصب نهر "الهو" يقول: "وهو من الأنهار التي ذكرها بطليموس".
كما أنه نقل عن بعض المشاهدين كابن فاطمة في حديثه عن بحيرة كوري.
ويأتي ابن فضل الله العمري (ت 749هـ) في مرتبة مرموقة من علماء الرحلات.
صحيح أنه لم يتبع منهجاً رسمياً في تعريفاته، ولا في الشرح.
إلا أنه لم يترك شيئاً لم يذكره عن الملك، والعامة، والأعلام، والطبيعة، والمحاصيل...... إلى جانب أنه لم يترك كتاباً سبقه لم يرجع إليه. فيقدم المعلومات كاملة، تكفي من يقرؤها أن يلمّ بحال البلاد قديمها ومعاصرها له.
ومن جملة بلاد السودان عند الرحالة العرب ما ذكره العمري عن "مملكة مالي" وهي التي كانت تدعى كذلك التكرور. وما كان السكان يحبون هذا اللفظ، لأن "التكرور" إقليم صغير من مملكتهم. ويفضلون عليه اسم "مالي" لأنه الإقليم الأكبر، وهو به أشهر.
وتشتمل هذه المملكة على غانة (على ضفة النيل وزافون ، وترنكا (من بلاد السودان)، وسنغانة (على ضفتي النيل)، وزاغة (مدينة على النيل) ، وغير ذلك. ويبدأ العمري بذكر موقعها ووصف بيئتها القاسية فيقول :
"أعلم أن هذه المملكة في جنوب نهاية الغرب متصلة بالبحر المحيط، قاعدة الملك بها مدينة ييتي. وهذه المملكة شديدة الحر، قشِفة المعيشة، قليلة أنواع الأقوات".
ثم ينتقل إلى وصف أهلها فيقول: "وأهلها طوال في غاية السواد، وتفلفل الشعور. وغالب طول أهلها من سوقهم لا من هياكل أبدانهم". وهو وصف جسدي في غاية الدقة.
ثم ينتقل إلى ذكر ملكها، واسمه سليمان أخو السلطان موسى منسي.
ويذكر العمري أنهم مسلمون، وفي بلادهم مساجد وجوامع ومواذن، "وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك".
ويصف الملك بأن هذا "الملك هو أعظم ملوك السودان المسلمين، وأشدهم بأساً، وأعظمهم مالاً، وأحسنهم حالاً، وأقهرهم للأعداء، وأقدرهم على إفاضة النعماء".
ولا يترك معلومة تساعد على معرفة هذه المملكة إلا ذكرها، نقلاً عن زوارها، والوافدين عليها. كما أنه يفصل في مزروعاتهم النادرة، وحيواناتهم الوحشية والعجيبة.
ويختم الفصل بصفة الملك، وثيابه، وسريره، وحشمه، وخدمه، وفرسانه، وعاداته في إقامةٍ، وسفر، واستقبال للتجار أو الوفود.
وحين يتحدث عن "دُنقلة" يذكر لنا معلومات عن عاداتهم وأطعمتهم، فيذكر أن دنقلة مسجداً يأوي إليه الغرباء، وكان الملك يدعوهم، ويضيفهم، ويهبهم. وأكثر أعطياتهم: جارية، عبد، أكسية غلاظ غالبها سود تسمى "دكادك".
ويكثر عندهم السمك، والألبان، واللحوم، والذرة. وأفخر أطبختهم اللوبياء في مرق اللحم.
ولهم انهماك على السكر بالمِزر (نبيذ الشعير أو القمح). ولهم ميل إلى الطرب. ويتخذون كلاباً معلّمة تنام على التخوت لحراستهم.
وللعمري اهتمام خاص بذكر الأعلام غير الملك؛ فهو يذكر أن لقمان الحكيم منهم، ويعرّف به مفصلاً، ويشير إلى أنه كان معاصراً لداود ورفيقاً له.
ويذكر "ذا النون المصري" ثوبان بن إبراهيم، لأن أصله من النوبة.
وقد كان العمري كثير النقل من ياقوت، والقلقشندي، وابن سعيد، ومحمد بن عبد الملك صاحب "التكملة"، وابن الأثير "الكامل في التاريخ".
إضافة إلى حشد من الرواة الذين يبحث عنهم ويسألهم. فهو حين يتحدث عن "دنقلة" يقول: "وحدثني غير واحد ممن دخل النوبة أن دنقلة مدينة ممتدة على النيل، وأهلها في شظف العيش. على أنهم أصلح من كثير ممن سواهم من السودان".
ولن اتطرق إلى رحلة ابن بطوطة (ت 779هـ) لشهرتها، وكي أتيح الفرصة العلمية لمن خصّها بالبحث من السادة العلماء. وأشير هنا إلى أسلوب ابن بطوطة أسلوب العرض القصصي، والحكاية المبسطة، ووصف المشاهدات، وذكر أقوال الناس من سكان البلاد، من ذلك حديثه عن الطريق المؤدية إلى مالي، والسلطان الذي يحكمها.
طبقات الجغرافيين الرحالة:
لا بد من توضيح شخصية الرحالة، ومعرفة طبقاتهم واختصاصاتهم:
1- رحالة: اختصوا بالتنقل من بلد إلى بلد بدافع الإطلاع وتسجيل مشاهداتهم، أو تدوين ما أملاه عليهم الرواة والمشاهدون. وليس لهم هدف سوى هذا.
على أن بعضهم كان تاجراً كياقوت الحموي، وابن حوقل. وفي نظري هذه الفئة ذكية، تستفيد من تجوالها بالربح لتأمين مصروف رحلاتهم.
والجدير بالذكر أن بعض الرحالة أولوا اهتماماً كبيراً ببلاد السودان، وكانوا المصدر الأساسي لفهم تلك البلاد، وأخص بالذكر الرحالة المغاربة، لأن لهم فضلاً كبيراً في كشف مجاهل بلاد السودان، ووصف البلاد، والسكان والطبيعة لثلاثة أسباب:
1- لأنهم أقرب إلى أواسط إفريقية من المشارقة.
2- ولأن علماء الدين والفقهاء المالكية من المغاربة كانوا ينزلون تلك البلاد لنشر الدين والمذهب.
3- ولأن التجارة متصلة بين الشمال الإفريقي ووسطه.
ولولا المغاربة لكانت معلوماتنا عن بلاد السودان ضحلة. ومن أهم الرحالة المغاربة: الإدريسي، ابن سعيد، ابن بطوطة.
على أن بعضهم وهم من أصل أندلسي ندر أن كتبوا عن بلاد السودان. كالبكري الأندلسي في "معجم ما استعجم" لم يذكر شيئاً من هذه البلاد.
في حين أن بعض الرحالة قصّر في ذكر معالم بلاد السودان كياقوت الحموي؛ فهو لم يذكر من بلاد السودان وأواسط إفريقية إلا القليل غير المجدي؛ فهو لم يذكر مملكة مالي، ولا الحبشة، وذكر غانة ببضعة أسطر، وذكر تكرور بثلاثة أسطر غير ذات فائدة، كما أنه أوجز في حديثه عن "دمقلة"، ومعظم ما ذكره كان حول حملة ابن أبي سرح. ولم يفصّل إلا في "بلاد التبر".
ومن النادر أن نرى رحالة زار كل مناطق السودان، أو معظمها – بما في ذلك الرحالة المغاربة- وهذا أمر بديهي، لأن البلاد واسعة جداً. وقد اعتمد كثير منهم على الرواة، ورجال التبشير الإسلامي، والتجار.
ومعظمهم نقل عن غيره. وقد يكفينا أن نقرأ ثلاثة أسفار من كتب الرحالة لنعرف جلّ ما قيل؛ فالقزويني وصف الصحراء نقلاً عن ياقوت، وياقوت نقل ما سمع، ومعظمهم أخذوا عن ابن سعيد الذي كان ابن فاطمة راويته، والمؤرخون ختموا كتب غرهم، وغيرهم فعل فعلهم. إلا من بعض إضافات تميز بها واحد من الآخر، أو خرافة سمعها فأحب أن يملّح يفصله بها.
2- جغرافيون: ألغوا كتبهم الجغرافية، وطعّموها ببعض المشاهدات والنقول. وما كانوا في جولاتهم رحالين بقدر ما كانوا مسّاحين للأرض، كابن حوقل والقزويني، والبكري، والإدريسي.
3- مؤرخون: التاريخ والجغرافية صفوان لا يفترقان. والمؤرخ أحياناً مضطر إلى التعريف ببعض الأقاليم بحكم الموضوع الذي يعالجه، ولا سيما حين يتحدث عن المعارك التي جرت، أو الولايات التي عُين عليها أحد الولاة، أو الأعلام التي يعرف بها.
كما فعل الطبري في أحداث سنة 31هـ حين ذكر العهد الذي قطع بن ملك دنقلة والمسلمين، وحين نقضوا العهد عرف بهم، فقال: "وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب. والمغرب فيما ذكر: البجة، وأهل غانة الغافر، وبينور، ورعوين.... والنوبة والحبش ".
وكذلك فعل ابن كثير (ت 774هـ) حين تحدث عن البجة فرأى أنهم طائفة من سودان بلاد المغرب، في بلادهم معادن الذهب والجوهر، لا يغزون المسلمين لهدنة كانت لهم من المسلمين، فنقضوا الهدنة وصرّحوا بالخلاف، فامتنعوا عن أداء ما عليهم سنين عديدة إلى والي مصر العباسي في عهد المتوكل (ت247هـ)
ومثله أبو الفداء واليعقوبي وابن الأثير وأبو شامة. ولعل أكثرهم تفصيلاً ابن خلدون لأنه من بربر الشمال الإفريقي.
وهكذا نجد أن المؤرخين قاموا بالتعريف لبلاد السودان بطريقة غير مباشرة، ولم تكن الهدف. وكل ما دونوه كان نقلاً عن كتب الرحالة.
4- مؤلفو كتب الإنشاء والموسوعات الأدبية: فقد حرص المؤلفون في هذه الموسوعات على تدوين معلومات ثقافية تفيد الناشئة، ولا سيما من يطلبون التوظيف في دواوين السلطان.
ولعل من أهم هذه الموسوعات "صبح الأعشى" للقلقشندي؛ فقد عقد فصلاً تحدث فيه عن إقليم مالي، وصَوصَو، وكَوكو، والتكرور، وعن ملوكها، والموجودات فيها، جمعها كلها من كتب الرحالة. ولا نرى حاجة إلى الحديث عما دوّنوه، لأن في ذلك تكراراً.
5- أصحاب المعجمات: على عالم اللغة أن يضبط اسم الموقع أو العلم في مكانه من معجمه، كما عليه أن يعرف به.
وفي هذا خدمة جليلة يشكرون عليها. ولعل ابن منظور، والفيروزآبادي، والزّبيدي خير من اهتم بهذا الجانب اللغوي التعريفي. ومع أن ما ذكروه موجزاً جداً إلا أنه صحيح ويعتمد.
ففي حديث ابن منظور عن "بجاوة" يقول : "بجاوة: قبيلة، والبجاوات من النوق منسوبة إليها. قال الربعي: البجاويات منسوبة إلى بجاوة قبيلة، يطاردون عليها كما يطارد على الخيل.
وفي الحديث: كان أسلم مولى عمر بجاوياً؛ هو منسوب إلى بجاوة جنس ٍ من السودان.
وقيل: هي أرض بها السودان. وبجاوة بالضم والكسر". ولم يذكر الفتح. وفي المحيط: "أرض النوبة بها إبل فارهة، يقال لها بجاوية"، وفتح الباء.
الخصائص العامة في التدوين:
صحيح أن كل رحالة يشرح كل ما توصّل إليه من معلومات جغرافية وعامة، فإنه يظل قاصراً، ولا سيما حين نرى غيره قد ذكر أشياء لم يتوصل إليها الآخرون.
حتى الذي يطيل الشرح جداً كالعمري وابن سعيد، فإن عمله يتصف بالنقص أمام من يوجز أحياناً مثل إسحاق بن الحسين.
فالرحالة يكتب ما يستهويه، ويدون ما يراه أو يسمعه. ولهذا فإن صورة أي إقليم لا تكتمل إلا بقراءة جميع ما كتب عنه، أو معظمه.
وهناك نقاط أساسية لا يكاد الرحالة يحيد عنها، من ذلك: تعريف بالمصر أو البلد، ونوع محاصيله، وما يشتهر به القوم، وأهمّ ما يلفت نظره أو نظر المشاهد الذي يروي عنه.
ومعظم الرحالة يصبّون المعلومات من غير رعاية؛ فقد يبدأ أحدهم بالزراعة، ثم يعود إليها ثانية، وقد يذكر العاصمة في أكثر من موقع ...
ولا بأس من استعراض بعض الخصائص العامة: 1- قد يذكرون أخباراً تاريخية في معرض استعراضهم الجغرافي، قلما عرّج عليها المؤرخون، أو ذكروها مفصلة، ويكتفي الجغرافيون بالإشارة إليها.
فقد ذكر العمري تخوّف صلاح الدين وبني أيوب من نور الدين الذي قد يهاجمهم، في مصر فشرعوا يبحثون عن مناطق بعيدة يحكمونها، إذا وقع حدث ما، فقال: "خافوا من الشهيد نور الدين زنكي أن يقصدهم إلى مصر، وينتزع المملكة من أيديهم، فأرادوا فتح بلاد من ورائهم تكون ملجأ لهم، فقصدوا النوبة. فلما رأوها بلادأً لا تصلح لمثلهم عدلوا إلى اليمن".
2- وقد يميل بعضهم إلى الزراعة، فيفصل فيها. ففي شرح العمري لبلد "الكانم" من مدن السودان نراه يركز طويلاً على موضوع الأرز ،
ومثله فعل ياقوت والقلقشندي .
يذكر العمري: "أن أبا عبد الله السلالجي أنه أخبره الشيخ صالح المنقطع عثمان الكانميّ –وهو من أقارب ملوكها- أن الأرز ينبت عندهم من غير بذر أصلاً، وهو ثقة". وزيادة في التوثيق قال: "قال السلالجي: وسألت عن ذلك غيره فأخبرني بصحة ذلك".
3- وكان بعضهم إذا سمع بأسطورة عن بلاد السودان ذكرها، من باب ملح القول. فقد روى ابن سعيد أن في جنوبيّ "كانم" شعار وصحاري فيها أشخاص كالغول تؤذي بني آدم، ولا يلحقها الفارس، وهي أقرب الحيوانات إلى الإنسان. "وإن بها يقطيناً تعظم اليقطينة أن يصنع منها مركب تعبر فيه في النيل". وقد أدرك ابن سعيد أن كلام الراوي تخليطاً، فاستدرك قائلاً: "والعهدة على الحاكي".
كما ذكر العمري في حديثه عن مملكة مالي أن ملوك مالي وغيرهم لم يفكروا بغزو بلاد "التبر" التي يحكمها كفار همج، مع أن فتحها سهل عليهم، لاعتقادهم "أن ما فتح منهم أحدٌ مدينة الذهب وفشا بها الذهب.... إلا قلّ بها وجود الذهب ثم يتلاش حتى يعدم، ويزداد فيما يليه من بلاد الكفار" ولهذا أبقوا بلاد التبر بأيدي أهلها الكفار، واكتفوا ببذل الطاعة "وحمول ٍ قررت عليهم".
4- وقد يضع بعضهم فصلاً خاصاً مفصلاً، إذا توفرت له معلومات كثيرة؛ فالبيهقي في تاريخه يضيف فصلاً في "مفاخر النوبة". ومثله فعل العمري قي النوبة أيضاً، وركز على سكانها وأديانهم ولا سيما: النصرانية، والإسلام، والكفر.
وخص ياقوت في حديثه عن بلاد التبر بشكل فاق سائر الرحالة والجغرافيين، وكيف أنهم يقطعون الصحارى، ليصور لنا عملية المقايضة بين تبر الكفار، وبضائع المسلمين التجار ، فكان مرجعاً لغيره في هذا الباب. وبالإجمال فإن معظم الرحالة أفاضوا في الحديث عن بلاد "النوبة" لأهميتها.
5- وقد ينفرد بعضهم في أمر معين كالإدريسي الذي ذكر لقب ملوك النوبة وهو "كاسل" مثل لقبي النجاشي وقيصر، وابن عبد المنعم الحميري (ت 727هـ؟) الذي أبدى اهتمامه الكبير في نسائهم، فقال: "وفي نسائهم جمال فائق، ولهنّ أعراق طيبة ليست من أعراق السودان في شيء..." بل إن الحميري هذا لم يتحدث عن النوبة تقريباً إلا من هذا الجانب، فقال:
"وجميع بلاد النوبة في نسائهم جمال وكمال، وشفاههم رقاق، وأفواههم صغار، ومباسمهم بيض، وشعورهم سبطة. وليس في جميع السودان والزنوج والحبشة والبجاة وغيرهم من شعور نسائهم كشعور نساء النوبة؛ فإنها سبطة مرسلة. ولا أحسن للجماع منهن. ويبلغ ثمن الجارية منهن ثلاث مئة دينار. ولهذه الخلال فيهن يرغب فيهن ملوك مصر، فيتنافسون في أثمانهن..."
وقريب من هذا ذكر صاحب الاستقصا ، ونقل عنه الشريشي (ت619هـ) في شرح مقامات الحريري، فقال: "والإماء فيها قد جعل الله فيهن من الخصال الكريمة في خَـلقهن وخُـلقهن فوق المراد: من ملاسة الأبدان، وتفتق السواد، وحسن العينين، واعتدال الأنوف، وبياض الأسنان، وطيب الروائح".
إجماع الرحالة في معلوماتهم:
على رُغم ما ذكرنا من اختصاص كل رحالة، وتميزه في طريقة سكب معلوماته، فإن نقاطاً أساسية لم يختلفوا فيها، وأهمها:
1- مساحة الأقاليم: لقد كتب معظم الجغرافيين عن بلاد السودان، على أنها أقاليم السكان من ذوي البشرة السوداء في القارة الإفريقية. لكن أحداً من هؤلاء القدماء لم يكتب عن منطقة السودان الحالية كدولة محددة المواقع، إلا من وراء حديثهم عن النوبة والبجه. وكانوا يشيرون إلى أن بلاد السودان تقع جغرافياً من جنوب بلاد الملثمين (الطوارق) شمالاً إلى خط الإستواء جنوباً، ومن البحر المحيط غرباً إلى نهر النيل شرقاً أو إلى البحر الأحمر.
2- المجتمعات: ذكروا جميعاً أن الشعوب داكنة البشرة، قليلو المعرفة، يعيشون عراة رجالاً ونساء. وإن ارتدى بعضهم فبجلود الحيوانات ولا سيما جلود النمور الكثيرة عندهم.
3- المعتقدات: ذكروا أنهم ثلاث فئات: مسلمون وكلهم على المذهب المالكي، ونصارى، وكفار لا يدينون بدين، وهم الفئة المتوحشة من السكان.
4- المحاصيل والمنتجات: أهم ما أجمعوا عليه أن الذهب يكثر في بلادهم، ولا سيما بلاد "التبر"، وأن سكان التبر لم يقابلوا أحداً، وكل ما عرفوه عنهم ما روي، أو ما شوهد من بعيد. ويكثر عندهم الذرة، واللوبياء، واليقطين.
وحيواناتهم عديدة ومتنوعة، يكثر فيها: الفيل، والنمر، والزرافة. وأن الأقاليم التي تقرب من النيل يكثر فيها التماسيح. وأشاروا إلى حيوانات نادرة، لا ترى في بلاد أخرى.
5- وأن التجار يقصدونها من الشمال إلى الجنوب، عن طريق غانة. وأن التجارة تتمّ بالمقايضة، فيقدمون لهم الخرز والزينة النحاسية، ويأخذون بالمقابل الذهب والعاج.
6- وأن السم كثير في بلادهم، يستخدمونه في نبالهم التي يرمون بها العدو، وهو سلاحهم الأصلي.
7- وأن البلاد واسعة شاسعة، ولا يمكن تحديد أطرافها. ولهذا قالوا: تمتد من البحر المحيط إلى النيل، وأن الصحارى مفازات لا ماء فيها لا يمكن قطعها إلا بصعوبة فائقة.
8- وأن الحرارة شديدة جداً لا يحتملها الإنسان، وبسبب ارتفاع الحرارة تجف المياه حتى في القرب.
تناقض الرحالة في معلوماتهم:
ولا بد من الاختلاف والتمييز، وسببه اختلاف المشاهدات، وتناقض الروايات. ومن ذلك:
1- بعضهم يراهم يسكنون أعالي الأشجار خوفاً من الأرضة، وآخرون يرونهم يعيشون في سراديب تحت الأرض.
2- كثير منهم يراهم يرتدون جلود النمور، وبعضهم يعمم فيجعلها جلود الحيوانات، وبعضهم ذكر أنهم يكتسون بجلود البغال.
3- بعضهم يرى أن البلاد قاحلة لا يعيش فيها نبات، وآخرون يذكرون أن عندهم أشجاراً ضخمة، حتى إن السكان يعيشون عليها
4- بعضهم يرى أن الأمطار معدومة، وآخرون يذكرون أن الأمطار غزيرة، تتجمع في أجواف الأشجار الضخمة.
5- هم اتفقوا على كبر مساحة بلاد السودان، ولكنهم اختلفوا؛ فبعضهم يراها مسيرة سنة طولاً ومسيرة سنة عرضاً، وآخرون يجعلون المسيرة ستة أشهر، وفئة تراها ثلاثة أشهر.
وأرى أن الاختلاف ناجم عن تصويرهم لمناطق دون أخرى، مما تيسّر لهم معرفتها، أو أنه من تخليط الرواة.
صفوة القول :
لقد بذل علماؤنا الجغرافيون والرحالة كل ما وسعتهم الطاقة، والمعرفة، والتجوال، وما أخبرهم به الرواة، للتعريف بأقاليم الأرض. وخاضوا –في سبيل المعرفة والتعريف- قد يستحيل على المرء الوصول إليها.
ووصلوا بنا إلى مناطق نحن بأمسّ الحاجة إلى كشف خفاياها اليوم، كما كان على ذلك الأسبقون.
وكان كل عالم يجوب مناطق وأقاليم تهمه، فيعرف بها وبطبيعتها، وطبيعة سكانها.
صحيح أن بعضهم شرّق وغرب في الأراضي العربية والإسلامية، لكن خطواتهم ساقتهم شمالاً وجنوباً إلى معالم يعسر الوصول إليها، ولا سيما بلاد السودان التي نتعطش إلى معرفتها كتعطش سكانها إلى الماء. =====================================
المصادر والمراجع :
1- آثار البلاد وأخبار العباد – القزويني. بيروت، دار صادر 1969
2- آكام المرجان في ذكر المدائن المشهورة في كل مكان – إسحاق بن الحسين.
3- الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى – أحمد بن خالد الناصري السلاوي. الدار البيضاء 1954
4- البداية والنهاية – ابن كثير. مصر 1351-1358هـ
5- بسط الأرض في الطول والعرض – ابن سعيد. نشرة خوان فرنيط خينس. تطوان 1958
6- تاريخ ابن خلدون (العبر). تحقيق تركي فرحان مصطفى. دار إحياء التراث العربي وشريكه، بيروت 1999
7- تاريخ الطبري (الرسل والملوك)، تحقيق جاكلين سوبلة. المعهد الفرنسي، دمشق 1974
8- تاريخ اليعقوبي. طبعة النجف 1358هـ .
9- تقويم البلدان – أبو الفداء، نشر زينو، ودي سلان. دار الطباعة السلطانية، باريس 1840
10- رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار). دار صادر، بيـــروت (بلا. ت)
11- الروض المعطار في خبر الأقطار – ابن عبد المنعم الحميري، تحقيق إحسان عباس. مؤسسة الناصر للثقافة، بيروت 1980
12- شرح المقامات الحريرية – الشريشي. مصر 1300هـ
13- صبح الأعشى – القلقشندي. دار الكتب العلمية، بيروت 1987
14- صورة الأرض- ابن حوقل. دار مكتبة الحياة، بيروت 1979
15- كتاب البلدان – ابن الفقيه
16- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين – أبو شامة. مصر 1287
17- لسان العرب – ابن منظور. طبعة صادر.
18- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار – شهاب الدين العمري، تحقيق حمزة أحمد عباس. المجمع الثقافي، أبو ظبي 2002
19- المسالك والممالك – الإصطخري. طبعة الحيني، القاهرة 1961
20- معجم البلدان – ياقوت الحموي. دار صادر ودار بيروت، بيروت 1957
21- معجم ما استعجم – ابن عبد العزيز البكري. ط3 عالم الكتب، بيروت 1983
22- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق – الإدريسي. القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية (بلا. ت)
23- المغرب في حلي المغرب – ابن سعيد، ت شوقي ضيف. دار المعارف ، مصر .
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?182-%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86-..%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%B1...-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%86%D9%85%D9%88%D8%B0%D8%AC%D8%A7%D9%8B-..
في التعريف بالأمصار... السودان نموذجًا :
الدكتورمروان الجاسمي الظفيري
{نصّ المحاضرة التي ألقيت في الجلسة الثالثة ...
وذلك في ندوة السودان وأفريقيا في مدونات الرحالة العرب والمسلمين : ـ دورة ابن حوقل ـ في الفترة من : 11 ـ 15 فبراير 2006 م ؛ برعاية سامية من السيد رئيس الجمهورية ...
تحت شعار :
اكتشاف الذات والآخر ...}
الحديث عن بلاد السودان لا تكفيه دقائق ولا جملة محاضرات.
ولو أني ادعيت هذا لغمطت حق بلاد طولها سنة وعرضها سنة.
كما أنني لا أستطيع الإحاطة بكتب الرحالة الذين تعرّضوا لوصف بلاد السودان لأنهم كثيرون والحمدلله.
ولهذا اخترت أهمهم، أو جانباً منهم، والذي يشفع لي أن بعضهم نقل عن بعضهم الآخر .
وقد كانت " بلاد السودان " معروفة لدى العرب والمسلمين، بما جرى فيها من أحداث تاريخية، وغزوات عريقة في القدم، بدءاً بعقبة بن نافع.
وكانوا في المشرق يعرفون طبيعة بلاد السودان، ومعظم طبيعة أهلها .
فعندما امتنع البجه من دفع الإتاوة إلى عامل مصر فكر المتوكل العباسي بأن يأمر عامله هناك بغزوهم، فقيل له:" يا أمير المؤمنين إنهم قوم أهل إبل وبادية، وإن بلادهم بعيدة ومعطشة، ويحتاج الجيش الذاهبون إليها أن يتزوّدوا لمقامهم بها طعاماً
وماءً".
وقد وردت الأسماء: مالي، غانة، النوبة، بجاوة، تكرور، الحبشة، دُنقلة، بلاد التبر، البجه، وغيرها في معظم كتب الرحلات، والجغرافية، والتاريخ، مراراً.
وعلى عادة العرب لم يتركوا مصراً أو بلدة أو قرية إلا كتبوا عنها، وفصّلوا –أو أوجزوا- في دقائقها، سواء دخلها الإسلام أو لم يدخل، وسواء كانت بلاد سلم أو بلاد حرب.
وكان بعضهم يعالج الإقليم كاملاً فيعرف به وبكل ما يضم من طبيعة، ومجتمعات، وزراعات، وحيوانات كابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار".
وبعضهم يعرف بالأعلام والمعارك والمواقع كياقوت، وأبي الفداء.
بلاد السودان:
بلاد السودان تعبير رحب فضفاض عند الرحالة المسلمين، كانوا يطلقونه على معظم القارة الإفريقية ولا سيما أوسطها.
ثم خُصّ هذا التعبير بدولة السودان دون غيرها، مع أن المؤرخين الإسلاميين كانوا يدعونها بلاد النوبة والبجة.
وهم حين يتكلمون على السودان يبدؤون بالمساحة الكبرى من المحيط إلى النيل، ثم يأخذون بالحديث عن البلاد بلداً بلداً أو إقليماً إقليماً جغرافياً، وطبيعياً، واقتصادياً، واجتماعياً.
ولعل الإصطخري أقدم من كتب عن السودان بصفحة واحدة، فاستطاع أن يحدد البلاد فقال:" وبلدان السودان بلدان عريضة، إلا أنها قفرة قشِفة جداّ".
وذكر الفاكهة فرآها نوعين: نوعاً ينمو على الجبال هو مما يكون في بلاد الإسلام، إلا أنهم لا يَطعمونه.
ونوعاً لا يعرف في بلاد الإسلام، هو الذي يتغذون منه.
ويحدد مساحتهم فيقول:" يمتدون إلى قرب البحر المحيط مما يلي الجنوب (وهو الوحيد الذي ذكر الجنوب)، ومما يلي الشمال على مفازة تنتهي إلى مفاوز مصر من وراء الواحات، ثم على مفاوز بينها وبين أرض النوبة، ثم على مفاوز بينها وبين أرض الزنج.
وليس لها اتصال بشيء من الممالك والعمارات إلا من وجه المغرب، لصعوبة المسالك بينها وبين سائر الأمم.
فقد قصر الإصطخري حديثه على امتداد رقعة بلادهم والمفازات من غير أن يحدد طول البلاد وعرضها.
ويرى ابن حوقل أن هذه المفازات السوداء "تكون بين دَبَرته وبلاد الزنج براريّ عظيمة ورمال كانت في سالف الزمان مسلوكة.
وأول الرحالة المسلمين المعروفين ابن الفقيه (ت 290هـ) نراه يتكلم عليها ولم يرها، ولذلك يبدأ كلامه بـ "قالوا" ولم يحدد. فيصف الأراضي بين مصر وغانه، "وإذا جاوزت بلاد غانة إلى أرض مصر انتهيت إلى أمة من السودان يقال لها كَوكَو، ثم إلى أمة يقال لها مَرَندَة، ثم إلى أمة يقال لها مُراوة، ثم إلى واحات مصر"
فهو يسير بحديثه عرضاً من غانة غرباً إلى مصر شرقاً، ولم يعتبر غانة من بلاد السودان.
ويريحنا إسحاق بن الحسين في تعريفه لبلاد السودان فيقول: "وهي كبيرة واسعة آخذة في الطول من بحر المغرب إلى بحر قُلزم. وهي عظيمة جليلة وبين مدينة غانة وبلاد النوبة بلاد كثيرة الصحارى ورمال".
فدمج بلاد النوبة ، والحبشة، وغانة ، وزغاوة ، وكوس ، وكَوكو ، وعلوة، في صفحة واحدة وبعض الصفحة، لكنه آتى على معلومات قد يكون انفرد بها عن غيره.
وأهم ما اعتنى به إسحاق أنه حدّد بع المواقع، فقال: "ومن مدائنهم مدينة زغاوة، وهي حدود بلاد النوبة على النيل، ومدينة كوس، ومدينة علوة في بلاد النوبة. وبلاد النوبة على الخليج الذي بين النيل والنهر الذي يأتي من تحت خط الاستواء. وما خلف هذه البلدان في الجنوب فغير مسكونة لشدة الحر فيها". وهذا تحليل جغرافي مهم، لمؤرخ رحالة ألف كتاباً صغيراً في غاية الإيجاز.
والمنهج الذي اتبعه القزويني (ت682هـ) منهج معظم الرحالة المشهورين؛ فقد عاش في القرن السابع، وألمّ بكتب الرحلات التي نضجت وعظمت.
ويكاد القزويني يعد من ألمع من كتب عن بلاد السودان، ووصف طبيعتها، وأشار إلى أرض الذهب.
واستطاع أن ينقل القارئ من فكرة إلى أخرى نقلاً عمن شاهد تلك البلاد، من غير أن يذهب إليها بنفسه. وأتى بآراء ومعلومات قريبة من الصدق، فيها الكثير من الجدّة والندرة، وأيضاً نقلاً عن مشاهد زائر.
وبعد أن يتكلم على بلاد السودان بعامة، يفرد البحث الموجز عن تكرور، وغانة، وبلاد التبر (الذهب).
فبلاد السودان عند القزويني "كثيرة، وأرض واسعة، ينتهي شمالها إلى أرض البربر، وجنوبها إلى البراري، وشرقها إلى الحبشة، وغربها إلى البحر المحيط".
ثم ينتقل إلى البيئة والطبيعة فيراها –كما يراها غيره- بأن "أرضها محترقة لتأثير الشمس فيها، والحرارة بها شديدة جداً، لأن الشمس لا تزال مُسامتة لرؤوسهم".
ولا بد لكل رحالة من أن يذكر الذهب كما يذكر عريهم لكثرته، فيقول القزويني: إن "أرضهم منبت الذهب".
ويذكرون كذلك الفيلة، والزرافة، والكركدن.
وينفرد –نقلاً عن الفقيه علي الجنحاني المغربي- بأن أهلها اتخذوا بيوتهم على الأشجار العظيمة –التي لم يذكرها غيره- خوفاً من الأرَضة لكثرتها، ولا يتركون شيئاً من الأثاث والطعام على وجه الأرض إلا وأفسده الأرضة.
منهج الرحالة في تدويناتهم:
نشأ أدب الرحلات الجغرافية في أواخر القرن الثالث الهجري، في عصر ازدهار التأليف والتدوين في العصر العباسي، وككل عمل إبداعي لم يكن هذا النوع من التأليف ذا منهج علمي دقيق في بواكيره، إذ ينقصه التنظيم العلمي.
فقد كان الأوائل يصبون معلوماتهم وخواطرهم بين دفتي الكتاب من غير تنظيم أو دقة، ويلطون وصف الأقاليم بغيرها.
فابن الفقيه (ت 290هـ) بعد أن تكلم على مصر، وبالتحديد على مدينة "بِنها"، يُقحم سطرين عن أمة السودان، لينتقل بتدوينه مباشرة عن مدينة " تدمير " بالأندلس.
ومن الأوائل أيضاً الإصطخري (ت 346هـ)، وكان أحد المبدعين.
فمع أن مصادر علم البلدان لم تكن موفورة حتى زمانه، فإنه ألف كتابين هما "صور الأقاليم" و "مسالك الممالك" الذي يظن أنه انتحله عن أبي زيد البلخي.
وسرعان ما نرى هذا الفن يرقى على أيدي عدد كبير، ويأخذ منهجاً دقيقاً.
ففئة نظمت كتبها على أساس التعريف بالأماكن، مرتبة ترتيباً معجمياً كاقوت والبكري.
وفئة اتخذت منهج مسح الأرض مسحاً جغرافياً منظماً كما فعل ابن حوقل في "صورة الأرض" .
على أن الفئة العظمى هي التي ألفت كتب رحلاتها على أساس الأقاليم، واستعراض دقائق كل إقليم على حدة، كما فعل القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد" بشكل موسوعي.
وقال في خاتمة كتابه: "إلى ها هنا انتهى علم أهل بلادنا، والله أعلم بما وراء ذلك من البلاد والبحار".
وكما فعل ابن فضل الله العمري، إذ قسم كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" إلى أسفار، جعل السفر الرابع منه في اليمن، وشماليّ إفريقية، ووسطها، والأندلس.
وقد بدأ العمري تأليف كتابه هذا سنة 738هـ، واستمر على تأليفه حتى سنة وفاته، ومات ولم يتمه.
واعتمد في تصنيفه على من سبقه من المؤلفين ولا سيما ابن سعيد، ومصادر أخرى خطية وشفهية، ولا سيما من زاروا تلك الممالك.
وتأتي أهمية كتابه في أنه ذكر مصادر تعد من النصوص المهمة المفقودة الآن.
ويبلغ هذا اللون من التأليف القمة على يد علي بن موسى، المعروف بابن سعيد المغربي (ت 685هـ).
فقد كان عالماً في ميدانه، دقيقاً في تصنيفه، وله كتب في الرحلات والجغرافية أحدها "بسط الأرض في الطول والعرض".
ويدل عنوان كتابه على أنه مسح الأرض المعمورة كلها.
وقد دل حديثه المطول عن بعض بلاد السودان، على أنه عالم جغرافي ورحالة في غاية الدقة؛ فهو يصور الأرض التي يراها أو يدرسها، كما يفعل ابن حوقل في "صورة الأرض"، بل ادق منه كثيراً.
وكتابه هذا أشهر الأسماء وروداً واعتماداً في كتب المشارقة والمغاربة على السواء، ومعظمهم نقلوا عنه، بل نقل عنه المغاربة أيضاً كابن خلدون في حديثه عن "بجاوة".
وهو في بسطه لبعض أراضي السودان يدل على أنه جغرافي أكثر من كونه رحالة سائحاً؛ فهو لا يكاد يشرح ما يشرحه مؤلفو الرحلات من وصف لطبيعة البلاد، وللأمم، وعاداتهم، وما يتهمون له، ويختصون به.
فهو يساير قارئه في الطريق التي يسلكها، ويحدد له موقع كل بلدة
وقرية ونهر ورافد، ويذكر له مواقعه من خط الإستواء، وما يقع دوينها أو بعيداً عنها، كقوله عن التكرور:
"وموضوع مدينة تكرور حيث الطول 17درجة والعرض 13درجة و30دقيقة ". ثم يقول:" وأول ما يلقاك منه –يريد الإقليم الأول- مدينة بريسا، وهي آخر بلاد التكرور. وعلى شمالي النيل حيث الطول 22 والعرض 13درجة و 30دقيقة".
ويعرف بمنطقة جبل لمى فيقول: "وجبل لمى امتداده من الغرب إلى الشرق 8مراحل، يخرج من طرفه الغربي نهر لمى المذكور، فيمر في عمائر حتى يصب في النيل. ويخرج من طرفه الشرقي نهر ملل، ويتقوس حتى يمر على مدينة ملل..... وعرض مدينة لمى 26درجة، ونهرها يصب في النيل في سمت مدينة درهم من مدن الكفار المهملين".
ويمضي ابن سعيد في تحليله الجغرافي الدقيق عن تكرور وما تضم من مواقع، وكأنه يرسم لك كلامه على مصور دقيق.
ويفعل الأمر نفسه في مدينة غانة، وجزيرة التبر.
ويعدد أسماء المدن التي تضمها هذه الجزيرة، مثل: سمغارة، غيارو، نمنم، مجالات، نقارة.... ويعرّف ببعضها تعريفاَ جغرافياً موجزاً.
ويستمر في وصفه هذا بأكثر من أربعين صفحة بالدقة نفسها.
ولم يكتف ابن سعيد بالوصف الجغرافي، بل جنح إلى بعض الإشارات التاريخية، وبعض العادات.
ومع أن أن ما ذكره دقيق ومهم للغاية إلا أنه في معلوماته غير الجغرافية مُقِلّ.
ولا نشك في أنه يعرف أكثر مما ذكر، لكن مخططه هو الإفاضة في بسط الأرض، والتعليق ما أمكن.
ويدل منهجه ومضمون عمله على ترتيب وتنظيم وخبرة في الأراء.
فهو يضع المعلومة في مكانها حين حين يعرّف الموقع جغرافياً، ولا ينثر المعلومات نثراً، ولا يخلط كما خلط العمري مثلاً. من ذلك:
1- حين يتكلم على التكرور يقول: "وأولُ ما يلقاك على غربي النيل من مدائن التكرور مدينة قلنبوا، وهي فرضة مشهورة، وكانت في زمن أبي عبيد البكري للكفار. وأما في عصرنا فما على شاطئ النيل من بلاد التكرور مدينة إلا ودخلها الإسلام".
2- وهو لا يكتفي، كما قال غيره بأن لباسهم الجلود، بل قال مفصلاً: "والغالب على لباس السودان التكرور وغيرهم الجلود. وإذا احتشى الواحد منهم كان الجلد مدبوغاً. ومن خالط البيض وتخصص اتخذ لباسه من الصوف والقطن، وذلك مجلوب لهم".
3- ويفضّل في مسألة سلاحهم المشهور الذي فقأ أعين المجاهدين فيقول: "وسلاحهم دبابيس الأبنوس وهو كثير على النيل.... ولهم قسي وسهام من القصب الشكري، ومنه يصنعون أوتارها. والبقلة التي يسمون بها سلاحهم كثيرة على شطوط نيلهم".
4- وحين يتحدث عن بحيرة كوري يعطيك معلومتين هما في غاية الدقة:
أ- معلومة جغرافية في قوله: "وفي هذا الجزء الثالث بحيرة كوري التي يخرج منها نيل مصر، ونيل مقدشو، ونيل غانة".
ب- معلومة تاريخية واجتماعية: "ويحدق بها من جميع جهاتها أمم طاغية من السودان الكفرة الذين يأكلون الناس.... ويجاورهم من الجانب الغربي جابي، وهم الذين يبردون أسنانهم. وإذا مات لهم ميت دفعوه إلى جيرانهم يأكلونه، وكذلك يفعل معهم جيرانهم....."
وقد اطلع ابن سعيد على ما كتبه بطليموس عن هذه المناطق، وكان يشير إلى ذلك، من ذلك حين ذكر مصب نهر "الهو" يقول: "وهو من الأنهار التي ذكرها بطليموس".
كما أنه نقل عن بعض المشاهدين كابن فاطمة في حديثه عن بحيرة كوري.
ويأتي ابن فضل الله العمري (ت 749هـ) في مرتبة مرموقة من علماء الرحلات.
صحيح أنه لم يتبع منهجاً رسمياً في تعريفاته، ولا في الشرح.
إلا أنه لم يترك شيئاً لم يذكره عن الملك، والعامة، والأعلام، والطبيعة، والمحاصيل...... إلى جانب أنه لم يترك كتاباً سبقه لم يرجع إليه. فيقدم المعلومات كاملة، تكفي من يقرؤها أن يلمّ بحال البلاد قديمها ومعاصرها له.
ومن جملة بلاد السودان عند الرحالة العرب ما ذكره العمري عن "مملكة مالي" وهي التي كانت تدعى كذلك التكرور. وما كان السكان يحبون هذا اللفظ، لأن "التكرور" إقليم صغير من مملكتهم. ويفضلون عليه اسم "مالي" لأنه الإقليم الأكبر، وهو به أشهر.
وتشتمل هذه المملكة على غانة (على ضفة النيل وزافون ، وترنكا (من بلاد السودان)، وسنغانة (على ضفتي النيل)، وزاغة (مدينة على النيل) ، وغير ذلك. ويبدأ العمري بذكر موقعها ووصف بيئتها القاسية فيقول :
"أعلم أن هذه المملكة في جنوب نهاية الغرب متصلة بالبحر المحيط، قاعدة الملك بها مدينة ييتي. وهذه المملكة شديدة الحر، قشِفة المعيشة، قليلة أنواع الأقوات".
ثم ينتقل إلى وصف أهلها فيقول: "وأهلها طوال في غاية السواد، وتفلفل الشعور. وغالب طول أهلها من سوقهم لا من هياكل أبدانهم". وهو وصف جسدي في غاية الدقة.
ثم ينتقل إلى ذكر ملكها، واسمه سليمان أخو السلطان موسى منسي.
ويذكر العمري أنهم مسلمون، وفي بلادهم مساجد وجوامع ومواذن، "وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك".
ويصف الملك بأن هذا "الملك هو أعظم ملوك السودان المسلمين، وأشدهم بأساً، وأعظمهم مالاً، وأحسنهم حالاً، وأقهرهم للأعداء، وأقدرهم على إفاضة النعماء".
ولا يترك معلومة تساعد على معرفة هذه المملكة إلا ذكرها، نقلاً عن زوارها، والوافدين عليها. كما أنه يفصل في مزروعاتهم النادرة، وحيواناتهم الوحشية والعجيبة.
ويختم الفصل بصفة الملك، وثيابه، وسريره، وحشمه، وخدمه، وفرسانه، وعاداته في إقامةٍ، وسفر، واستقبال للتجار أو الوفود.
وحين يتحدث عن "دُنقلة" يذكر لنا معلومات عن عاداتهم وأطعمتهم، فيذكر أن دنقلة مسجداً يأوي إليه الغرباء، وكان الملك يدعوهم، ويضيفهم، ويهبهم. وأكثر أعطياتهم: جارية، عبد، أكسية غلاظ غالبها سود تسمى "دكادك".
ويكثر عندهم السمك، والألبان، واللحوم، والذرة. وأفخر أطبختهم اللوبياء في مرق اللحم.
ولهم انهماك على السكر بالمِزر (نبيذ الشعير أو القمح). ولهم ميل إلى الطرب. ويتخذون كلاباً معلّمة تنام على التخوت لحراستهم.
وللعمري اهتمام خاص بذكر الأعلام غير الملك؛ فهو يذكر أن لقمان الحكيم منهم، ويعرّف به مفصلاً، ويشير إلى أنه كان معاصراً لداود ورفيقاً له.
ويذكر "ذا النون المصري" ثوبان بن إبراهيم، لأن أصله من النوبة.
وقد كان العمري كثير النقل من ياقوت، والقلقشندي، وابن سعيد، ومحمد بن عبد الملك صاحب "التكملة"، وابن الأثير "الكامل في التاريخ".
إضافة إلى حشد من الرواة الذين يبحث عنهم ويسألهم. فهو حين يتحدث عن "دنقلة" يقول: "وحدثني غير واحد ممن دخل النوبة أن دنقلة مدينة ممتدة على النيل، وأهلها في شظف العيش. على أنهم أصلح من كثير ممن سواهم من السودان".
ولن اتطرق إلى رحلة ابن بطوطة (ت 779هـ) لشهرتها، وكي أتيح الفرصة العلمية لمن خصّها بالبحث من السادة العلماء. وأشير هنا إلى أسلوب ابن بطوطة أسلوب العرض القصصي، والحكاية المبسطة، ووصف المشاهدات، وذكر أقوال الناس من سكان البلاد، من ذلك حديثه عن الطريق المؤدية إلى مالي، والسلطان الذي يحكمها.
طبقات الجغرافيين الرحالة:
لا بد من توضيح شخصية الرحالة، ومعرفة طبقاتهم واختصاصاتهم:
1- رحالة: اختصوا بالتنقل من بلد إلى بلد بدافع الإطلاع وتسجيل مشاهداتهم، أو تدوين ما أملاه عليهم الرواة والمشاهدون. وليس لهم هدف سوى هذا.
على أن بعضهم كان تاجراً كياقوت الحموي، وابن حوقل. وفي نظري هذه الفئة ذكية، تستفيد من تجوالها بالربح لتأمين مصروف رحلاتهم.
والجدير بالذكر أن بعض الرحالة أولوا اهتماماً كبيراً ببلاد السودان، وكانوا المصدر الأساسي لفهم تلك البلاد، وأخص بالذكر الرحالة المغاربة، لأن لهم فضلاً كبيراً في كشف مجاهل بلاد السودان، ووصف البلاد، والسكان والطبيعة لثلاثة أسباب:
1- لأنهم أقرب إلى أواسط إفريقية من المشارقة.
2- ولأن علماء الدين والفقهاء المالكية من المغاربة كانوا ينزلون تلك البلاد لنشر الدين والمذهب.
3- ولأن التجارة متصلة بين الشمال الإفريقي ووسطه.
ولولا المغاربة لكانت معلوماتنا عن بلاد السودان ضحلة. ومن أهم الرحالة المغاربة: الإدريسي، ابن سعيد، ابن بطوطة.
على أن بعضهم وهم من أصل أندلسي ندر أن كتبوا عن بلاد السودان. كالبكري الأندلسي في "معجم ما استعجم" لم يذكر شيئاً من هذه البلاد.
في حين أن بعض الرحالة قصّر في ذكر معالم بلاد السودان كياقوت الحموي؛ فهو لم يذكر من بلاد السودان وأواسط إفريقية إلا القليل غير المجدي؛ فهو لم يذكر مملكة مالي، ولا الحبشة، وذكر غانة ببضعة أسطر، وذكر تكرور بثلاثة أسطر غير ذات فائدة، كما أنه أوجز في حديثه عن "دمقلة"، ومعظم ما ذكره كان حول حملة ابن أبي سرح. ولم يفصّل إلا في "بلاد التبر".
ومن النادر أن نرى رحالة زار كل مناطق السودان، أو معظمها – بما في ذلك الرحالة المغاربة- وهذا أمر بديهي، لأن البلاد واسعة جداً. وقد اعتمد كثير منهم على الرواة، ورجال التبشير الإسلامي، والتجار.
ومعظمهم نقل عن غيره. وقد يكفينا أن نقرأ ثلاثة أسفار من كتب الرحالة لنعرف جلّ ما قيل؛ فالقزويني وصف الصحراء نقلاً عن ياقوت، وياقوت نقل ما سمع، ومعظمهم أخذوا عن ابن سعيد الذي كان ابن فاطمة راويته، والمؤرخون ختموا كتب غرهم، وغيرهم فعل فعلهم. إلا من بعض إضافات تميز بها واحد من الآخر، أو خرافة سمعها فأحب أن يملّح يفصله بها.
2- جغرافيون: ألغوا كتبهم الجغرافية، وطعّموها ببعض المشاهدات والنقول. وما كانوا في جولاتهم رحالين بقدر ما كانوا مسّاحين للأرض، كابن حوقل والقزويني، والبكري، والإدريسي.
3- مؤرخون: التاريخ والجغرافية صفوان لا يفترقان. والمؤرخ أحياناً مضطر إلى التعريف ببعض الأقاليم بحكم الموضوع الذي يعالجه، ولا سيما حين يتحدث عن المعارك التي جرت، أو الولايات التي عُين عليها أحد الولاة، أو الأعلام التي يعرف بها.
كما فعل الطبري في أحداث سنة 31هـ حين ذكر العهد الذي قطع بن ملك دنقلة والمسلمين، وحين نقضوا العهد عرف بهم، فقال: "وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب. والمغرب فيما ذكر: البجة، وأهل غانة الغافر، وبينور، ورعوين.... والنوبة والحبش ".
وكذلك فعل ابن كثير (ت 774هـ) حين تحدث عن البجة فرأى أنهم طائفة من سودان بلاد المغرب، في بلادهم معادن الذهب والجوهر، لا يغزون المسلمين لهدنة كانت لهم من المسلمين، فنقضوا الهدنة وصرّحوا بالخلاف، فامتنعوا عن أداء ما عليهم سنين عديدة إلى والي مصر العباسي في عهد المتوكل (ت247هـ)
ومثله أبو الفداء واليعقوبي وابن الأثير وأبو شامة. ولعل أكثرهم تفصيلاً ابن خلدون لأنه من بربر الشمال الإفريقي.
وهكذا نجد أن المؤرخين قاموا بالتعريف لبلاد السودان بطريقة غير مباشرة، ولم تكن الهدف. وكل ما دونوه كان نقلاً عن كتب الرحالة.
4- مؤلفو كتب الإنشاء والموسوعات الأدبية: فقد حرص المؤلفون في هذه الموسوعات على تدوين معلومات ثقافية تفيد الناشئة، ولا سيما من يطلبون التوظيف في دواوين السلطان.
ولعل من أهم هذه الموسوعات "صبح الأعشى" للقلقشندي؛ فقد عقد فصلاً تحدث فيه عن إقليم مالي، وصَوصَو، وكَوكو، والتكرور، وعن ملوكها، والموجودات فيها، جمعها كلها من كتب الرحالة. ولا نرى حاجة إلى الحديث عما دوّنوه، لأن في ذلك تكراراً.
5- أصحاب المعجمات: على عالم اللغة أن يضبط اسم الموقع أو العلم في مكانه من معجمه، كما عليه أن يعرف به.
وفي هذا خدمة جليلة يشكرون عليها. ولعل ابن منظور، والفيروزآبادي، والزّبيدي خير من اهتم بهذا الجانب اللغوي التعريفي. ومع أن ما ذكروه موجزاً جداً إلا أنه صحيح ويعتمد.
ففي حديث ابن منظور عن "بجاوة" يقول : "بجاوة: قبيلة، والبجاوات من النوق منسوبة إليها. قال الربعي: البجاويات منسوبة إلى بجاوة قبيلة، يطاردون عليها كما يطارد على الخيل.
وفي الحديث: كان أسلم مولى عمر بجاوياً؛ هو منسوب إلى بجاوة جنس ٍ من السودان.
وقيل: هي أرض بها السودان. وبجاوة بالضم والكسر". ولم يذكر الفتح. وفي المحيط: "أرض النوبة بها إبل فارهة، يقال لها بجاوية"، وفتح الباء.
الخصائص العامة في التدوين:
صحيح أن كل رحالة يشرح كل ما توصّل إليه من معلومات جغرافية وعامة، فإنه يظل قاصراً، ولا سيما حين نرى غيره قد ذكر أشياء لم يتوصل إليها الآخرون.
حتى الذي يطيل الشرح جداً كالعمري وابن سعيد، فإن عمله يتصف بالنقص أمام من يوجز أحياناً مثل إسحاق بن الحسين.
فالرحالة يكتب ما يستهويه، ويدون ما يراه أو يسمعه. ولهذا فإن صورة أي إقليم لا تكتمل إلا بقراءة جميع ما كتب عنه، أو معظمه.
وهناك نقاط أساسية لا يكاد الرحالة يحيد عنها، من ذلك: تعريف بالمصر أو البلد، ونوع محاصيله، وما يشتهر به القوم، وأهمّ ما يلفت نظره أو نظر المشاهد الذي يروي عنه.
ومعظم الرحالة يصبّون المعلومات من غير رعاية؛ فقد يبدأ أحدهم بالزراعة، ثم يعود إليها ثانية، وقد يذكر العاصمة في أكثر من موقع ...
ولا بأس من استعراض بعض الخصائص العامة: 1- قد يذكرون أخباراً تاريخية في معرض استعراضهم الجغرافي، قلما عرّج عليها المؤرخون، أو ذكروها مفصلة، ويكتفي الجغرافيون بالإشارة إليها.
فقد ذكر العمري تخوّف صلاح الدين وبني أيوب من نور الدين الذي قد يهاجمهم، في مصر فشرعوا يبحثون عن مناطق بعيدة يحكمونها، إذا وقع حدث ما، فقال: "خافوا من الشهيد نور الدين زنكي أن يقصدهم إلى مصر، وينتزع المملكة من أيديهم، فأرادوا فتح بلاد من ورائهم تكون ملجأ لهم، فقصدوا النوبة. فلما رأوها بلادأً لا تصلح لمثلهم عدلوا إلى اليمن".
2- وقد يميل بعضهم إلى الزراعة، فيفصل فيها. ففي شرح العمري لبلد "الكانم" من مدن السودان نراه يركز طويلاً على موضوع الأرز ،
ومثله فعل ياقوت والقلقشندي .
يذكر العمري: "أن أبا عبد الله السلالجي أنه أخبره الشيخ صالح المنقطع عثمان الكانميّ –وهو من أقارب ملوكها- أن الأرز ينبت عندهم من غير بذر أصلاً، وهو ثقة". وزيادة في التوثيق قال: "قال السلالجي: وسألت عن ذلك غيره فأخبرني بصحة ذلك".
3- وكان بعضهم إذا سمع بأسطورة عن بلاد السودان ذكرها، من باب ملح القول. فقد روى ابن سعيد أن في جنوبيّ "كانم" شعار وصحاري فيها أشخاص كالغول تؤذي بني آدم، ولا يلحقها الفارس، وهي أقرب الحيوانات إلى الإنسان. "وإن بها يقطيناً تعظم اليقطينة أن يصنع منها مركب تعبر فيه في النيل". وقد أدرك ابن سعيد أن كلام الراوي تخليطاً، فاستدرك قائلاً: "والعهدة على الحاكي".
كما ذكر العمري في حديثه عن مملكة مالي أن ملوك مالي وغيرهم لم يفكروا بغزو بلاد "التبر" التي يحكمها كفار همج، مع أن فتحها سهل عليهم، لاعتقادهم "أن ما فتح منهم أحدٌ مدينة الذهب وفشا بها الذهب.... إلا قلّ بها وجود الذهب ثم يتلاش حتى يعدم، ويزداد فيما يليه من بلاد الكفار" ولهذا أبقوا بلاد التبر بأيدي أهلها الكفار، واكتفوا ببذل الطاعة "وحمول ٍ قررت عليهم".
4- وقد يضع بعضهم فصلاً خاصاً مفصلاً، إذا توفرت له معلومات كثيرة؛ فالبيهقي في تاريخه يضيف فصلاً في "مفاخر النوبة". ومثله فعل العمري قي النوبة أيضاً، وركز على سكانها وأديانهم ولا سيما: النصرانية، والإسلام، والكفر.
وخص ياقوت في حديثه عن بلاد التبر بشكل فاق سائر الرحالة والجغرافيين، وكيف أنهم يقطعون الصحارى، ليصور لنا عملية المقايضة بين تبر الكفار، وبضائع المسلمين التجار ، فكان مرجعاً لغيره في هذا الباب. وبالإجمال فإن معظم الرحالة أفاضوا في الحديث عن بلاد "النوبة" لأهميتها.
5- وقد ينفرد بعضهم في أمر معين كالإدريسي الذي ذكر لقب ملوك النوبة وهو "كاسل" مثل لقبي النجاشي وقيصر، وابن عبد المنعم الحميري (ت 727هـ؟) الذي أبدى اهتمامه الكبير في نسائهم، فقال: "وفي نسائهم جمال فائق، ولهنّ أعراق طيبة ليست من أعراق السودان في شيء..." بل إن الحميري هذا لم يتحدث عن النوبة تقريباً إلا من هذا الجانب، فقال:
"وجميع بلاد النوبة في نسائهم جمال وكمال، وشفاههم رقاق، وأفواههم صغار، ومباسمهم بيض، وشعورهم سبطة. وليس في جميع السودان والزنوج والحبشة والبجاة وغيرهم من شعور نسائهم كشعور نساء النوبة؛ فإنها سبطة مرسلة. ولا أحسن للجماع منهن. ويبلغ ثمن الجارية منهن ثلاث مئة دينار. ولهذه الخلال فيهن يرغب فيهن ملوك مصر، فيتنافسون في أثمانهن..."
وقريب من هذا ذكر صاحب الاستقصا ، ونقل عنه الشريشي (ت619هـ) في شرح مقامات الحريري، فقال: "والإماء فيها قد جعل الله فيهن من الخصال الكريمة في خَـلقهن وخُـلقهن فوق المراد: من ملاسة الأبدان، وتفتق السواد، وحسن العينين، واعتدال الأنوف، وبياض الأسنان، وطيب الروائح".
إجماع الرحالة في معلوماتهم:
على رُغم ما ذكرنا من اختصاص كل رحالة، وتميزه في طريقة سكب معلوماته، فإن نقاطاً أساسية لم يختلفوا فيها، وأهمها:
1- مساحة الأقاليم: لقد كتب معظم الجغرافيين عن بلاد السودان، على أنها أقاليم السكان من ذوي البشرة السوداء في القارة الإفريقية. لكن أحداً من هؤلاء القدماء لم يكتب عن منطقة السودان الحالية كدولة محددة المواقع، إلا من وراء حديثهم عن النوبة والبجه. وكانوا يشيرون إلى أن بلاد السودان تقع جغرافياً من جنوب بلاد الملثمين (الطوارق) شمالاً إلى خط الإستواء جنوباً، ومن البحر المحيط غرباً إلى نهر النيل شرقاً أو إلى البحر الأحمر.
2- المجتمعات: ذكروا جميعاً أن الشعوب داكنة البشرة، قليلو المعرفة، يعيشون عراة رجالاً ونساء. وإن ارتدى بعضهم فبجلود الحيوانات ولا سيما جلود النمور الكثيرة عندهم.
3- المعتقدات: ذكروا أنهم ثلاث فئات: مسلمون وكلهم على المذهب المالكي، ونصارى، وكفار لا يدينون بدين، وهم الفئة المتوحشة من السكان.
4- المحاصيل والمنتجات: أهم ما أجمعوا عليه أن الذهب يكثر في بلادهم، ولا سيما بلاد "التبر"، وأن سكان التبر لم يقابلوا أحداً، وكل ما عرفوه عنهم ما روي، أو ما شوهد من بعيد. ويكثر عندهم الذرة، واللوبياء، واليقطين.
وحيواناتهم عديدة ومتنوعة، يكثر فيها: الفيل، والنمر، والزرافة. وأن الأقاليم التي تقرب من النيل يكثر فيها التماسيح. وأشاروا إلى حيوانات نادرة، لا ترى في بلاد أخرى.
5- وأن التجار يقصدونها من الشمال إلى الجنوب، عن طريق غانة. وأن التجارة تتمّ بالمقايضة، فيقدمون لهم الخرز والزينة النحاسية، ويأخذون بالمقابل الذهب والعاج.
6- وأن السم كثير في بلادهم، يستخدمونه في نبالهم التي يرمون بها العدو، وهو سلاحهم الأصلي.
7- وأن البلاد واسعة شاسعة، ولا يمكن تحديد أطرافها. ولهذا قالوا: تمتد من البحر المحيط إلى النيل، وأن الصحارى مفازات لا ماء فيها لا يمكن قطعها إلا بصعوبة فائقة.
8- وأن الحرارة شديدة جداً لا يحتملها الإنسان، وبسبب ارتفاع الحرارة تجف المياه حتى في القرب.
تناقض الرحالة في معلوماتهم:
ولا بد من الاختلاف والتمييز، وسببه اختلاف المشاهدات، وتناقض الروايات. ومن ذلك:
1- بعضهم يراهم يسكنون أعالي الأشجار خوفاً من الأرضة، وآخرون يرونهم يعيشون في سراديب تحت الأرض.
2- كثير منهم يراهم يرتدون جلود النمور، وبعضهم يعمم فيجعلها جلود الحيوانات، وبعضهم ذكر أنهم يكتسون بجلود البغال.
3- بعضهم يرى أن البلاد قاحلة لا يعيش فيها نبات، وآخرون يذكرون أن عندهم أشجاراً ضخمة، حتى إن السكان يعيشون عليها
4- بعضهم يرى أن الأمطار معدومة، وآخرون يذكرون أن الأمطار غزيرة، تتجمع في أجواف الأشجار الضخمة.
5- هم اتفقوا على كبر مساحة بلاد السودان، ولكنهم اختلفوا؛ فبعضهم يراها مسيرة سنة طولاً ومسيرة سنة عرضاً، وآخرون يجعلون المسيرة ستة أشهر، وفئة تراها ثلاثة أشهر.
وأرى أن الاختلاف ناجم عن تصويرهم لمناطق دون أخرى، مما تيسّر لهم معرفتها، أو أنه من تخليط الرواة.
صفوة القول :
لقد بذل علماؤنا الجغرافيون والرحالة كل ما وسعتهم الطاقة، والمعرفة، والتجوال، وما أخبرهم به الرواة، للتعريف بأقاليم الأرض. وخاضوا –في سبيل المعرفة والتعريف- قد يستحيل على المرء الوصول إليها.
ووصلوا بنا إلى مناطق نحن بأمسّ الحاجة إلى كشف خفاياها اليوم، كما كان على ذلك الأسبقون.
وكان كل عالم يجوب مناطق وأقاليم تهمه، فيعرف بها وبطبيعتها، وطبيعة سكانها.
صحيح أن بعضهم شرّق وغرب في الأراضي العربية والإسلامية، لكن خطواتهم ساقتهم شمالاً وجنوباً إلى معالم يعسر الوصول إليها، ولا سيما بلاد السودان التي نتعطش إلى معرفتها كتعطش سكانها إلى الماء. =====================================
المصادر والمراجع :
1- آثار البلاد وأخبار العباد – القزويني. بيروت، دار صادر 1969
2- آكام المرجان في ذكر المدائن المشهورة في كل مكان – إسحاق بن الحسين.
3- الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى – أحمد بن خالد الناصري السلاوي. الدار البيضاء 1954
4- البداية والنهاية – ابن كثير. مصر 1351-1358هـ
5- بسط الأرض في الطول والعرض – ابن سعيد. نشرة خوان فرنيط خينس. تطوان 1958
6- تاريخ ابن خلدون (العبر). تحقيق تركي فرحان مصطفى. دار إحياء التراث العربي وشريكه، بيروت 1999
7- تاريخ الطبري (الرسل والملوك)، تحقيق جاكلين سوبلة. المعهد الفرنسي، دمشق 1974
8- تاريخ اليعقوبي. طبعة النجف 1358هـ .
9- تقويم البلدان – أبو الفداء، نشر زينو، ودي سلان. دار الطباعة السلطانية، باريس 1840
10- رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار). دار صادر، بيـــروت (بلا. ت)
11- الروض المعطار في خبر الأقطار – ابن عبد المنعم الحميري، تحقيق إحسان عباس. مؤسسة الناصر للثقافة، بيروت 1980
12- شرح المقامات الحريرية – الشريشي. مصر 1300هـ
13- صبح الأعشى – القلقشندي. دار الكتب العلمية، بيروت 1987
14- صورة الأرض- ابن حوقل. دار مكتبة الحياة، بيروت 1979
15- كتاب البلدان – ابن الفقيه
16- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين – أبو شامة. مصر 1287
17- لسان العرب – ابن منظور. طبعة صادر.
18- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار – شهاب الدين العمري، تحقيق حمزة أحمد عباس. المجمع الثقافي، أبو ظبي 2002
19- المسالك والممالك – الإصطخري. طبعة الحيني، القاهرة 1961
20- معجم البلدان – ياقوت الحموي. دار صادر ودار بيروت، بيروت 1957
21- معجم ما استعجم – ابن عبد العزيز البكري. ط3 عالم الكتب، بيروت 1983
22- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق – الإدريسي. القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية (بلا. ت)
23- المغرب في حلي المغرب – ابن سعيد، ت شوقي ضيف. دار المعارف ، مصر .
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?182-%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86-..%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%B1...-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%86%D9%85%D9%88%D8%B0%D8%AC%D8%A7%D9%8B-..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق