دور الرومان في تطور علم الجغرافيا
بدأت الدولة الرومانية في الاتساع حول البحر المتوسط في الشمال والجنوب والرومانيين مختلفين عن اليونانيين، فالرومان أهل حروب وغزوات واليونانيون أهل فلسفة ولذلك عندما وصلوا إلى الإسكندرية، وهى منارة العلم لم تستطع البربرية الرومانية أن تقضى على الثقافة اليونانية، وبقيت مدرسة الإسكندرية كمنبر وبرز فيها في ذلك الوقت عدد من العلماء كان من أشهرهم " استرابو Strabo " وهو من أسرة غنية على ما يبدو حيث أنه تلقى العلم في روما والإسكندرية، وقام في سياحات طويلة طاف فيها عدد من الدول مثل إيطاليا ومصر وبلاد اليونان وآسيا الصغرى وغيرهم، وهو وإن كان قد حمل اسم روماني وعاش في داخل الإمبراطورية الرومانية إلا أنه إغريقي في أصله وثقافته، وقد سجل المعلومات الجغرافية التي جمعها في رحلاته في كتاب يقع في 17 مجلد ولحسن الحظ فقد وصل الكتاب إلينا كاملاً.
ويعيب كتابات هذا العالم أنها وصفية أكثر منها تحليلية وهو صادق مع نفسه ورأيه أن الجغرافية هي وصف المناطق المعمورة، ومع أن الكثير من علماء اليونان قالوا بكروية الأرض ومنهم من قال أنها تدور حول محورها، وقد أيد استرابو الرأي الأول ولم يصدق القول الآخر، وقال أنها موضوعة في مركز العالم وليست متحركة، والجديد فيما قاله أن هذه الأرض فيها الصالح للسكن وغير الصالح للسكن، وأن المناطق الصالحة للسكن تحدها مناطق ليست صالحة للسكن إما بسبب الحرارة الشديدة أو مناطق لا تصلح لشدة البرد.
الجغرافية القديمة بلغت أوج تقدمها على يد جغرافي من الإسكندرية وهو مصري الأصل وهو " كلاديوس بطليموس أو القلوزى أو السكندري " وولد في قرية بالقرب من مدينة الأقصر من أبوين إغريقيين، وكانت مصر خاصة للرومان. وفى مكتبة الإسكندرية ألم بطليموس بكتابات سابقيه من الفلكيين والجغرافيين، وقد كان نهم في قراءة كتابات سابقيه وألف كتابان لهم أثر ملحوظ في الجغرافيا فيما بعد أحدهم اسمه " المجسطى Almadjisti " وهو الكبير والثاني حمل اسم " دليل جغرافية Guide to Geography والاسم الأصلي Geography Synthetics "
بطليموس القلوزى:
قد ألف كتابان لهم أثر ملحوظ في الجغرافية يحملون أسماء:
1- المجسطىAlmadjisti: كتاب في الجغرافية الرياضية أو الفلكية، وأشتمل على 13 فصل في الفصل الأول والثاني تناول قضايا رياضية وفلكية يحاول أن يبرهن فيها أن الأرض كرة وأن السماء لها نفس الشكل الكروي، ويحاول أن يثبت أن الكرة الأرضية ثابتة تقع في وسط الكون الذي يتحرك من حولها. وفى الفصل الثالث يتناول طول السنة وحركة الشمس، وفى الفصل الرابع يتناول الشهور وحركة الأقمار، وأفرد الفصل الخامس للحديث عن صناعة الإسطرلاب ( والذي تطور في خلال العصر العربي ) وفى هذا الفصل أيضاً يتناول مقادير الشمس والقمر والأرض، وقياس المسافات بين هذه الكواكب. وفى الفصل السادس يدرس الكسوف والخسوف، والسابع والثامن يدرس فيهم النجوم الثوابت، وما بقى من فصول الكتاب هو دراسة لحركات الكواكب السيارة، ونجد أنه ألحق بالكتاب جدول بالنجوم الثوابت وقد بلغت 1028 نجم وهو يذكر كل نجم ومقداره.
2- دليل جغرافية: وقد أشتمل على ثمان مقالات، الأولى فيها مقدمة عن الخرائط وطرق الإسقاط عليها مع شرح الأسس لشكل الأرض وأبعادها. وفى المقالات الست التالية وصف منظم للعالم في شكل جداول تبين خطوط الطول والعرض التي كان له بها معرفة والتي بلغت 8 آلاف موقع، وأشتمل الكتاب على 26 خريطة منها واحدة للعالم، 10 لأوروبا، 4 لأفريقية، والباقي لآسيا، ولم يكتفي بطليموس بهذه الخرائط العامة ولكنه أضاف لكتابه 67 رسماً لمناطق صغيرة المساحة.
ونجد أن العرب في العصور الوسطي أعجبوا ببطليموس وبكتاباته و كان لهذا تأثير واضح على المدرسة الجغرافية العربية في بدأ نشأتها، ونجد مؤرخ عربي كإبن القفطى في كتابه تاريخ الحكماء يتحدث عن بطليموس، ويقول " هو صاحب كتاب المجسطى وغيره إمام في الرياضة كامل فاضل من علماء اليونان. وإلى بطليموس انتهى علم حركات النجوم ومعرفة أسرار الفلك وعنده اجتمع ما كان متفرق عند الرومان واليونان وغيرهم من ساكنى غرب الأرض، وكان أحسن راصد وصانع لآلات الرصد ".
استمد بطليموس كثيراً من معلوماته من " أراتوستين و استرابو "، كما استمد كثيراً من هذه المعلومات بصفة خاصة من " مارونوس الصوري Merinos of Tire “ الذي نبغ قبل بطليموس بقليل فقد عاش في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي. وقد وضع في سنة 120 م خريطة للعالم كانت أساساً لخرائط بطليموس، ولذلك يعرف بطليموس " لمارونوس " قدره ويعترف بقدرته ويذكر أنه آخر العلماء الذين ينتمون إلى عصره. ونجد بطليموس أمين في النقل عن مارونوس فهو يقتبس من كتاباته حتى في المواضع التي لا يتفق معه فيها ويذكر وجهة نظره فيها.
وكان مارونوس عالم من علماء الرياضيات ولكنه أغرم بجمع المعلومات عن الرحلات والأسفار وبالأخص عن الشرق الأقصى والصحراء الكبرى، ويصنف المعلومات التي حصل عليها من الشرق والغرب، وأصدرها في كتاب يسمى " جغرافية " ونجد أن مارونوس يلحق بكتابه خريطة للعالم. ويذهب بطليموس إلى أن مارونوس هو أول من صنف في موضوع الجغرافية ويثنى على أعماله الجغرافية والكارتوجرافية، ويقول أنه توصل إلى أشياء لم تكن معروفة من قبله، وحقق بدراسة ومثابرته معلومات سابقيه ولم يكتفي بتصحيح أخطائهم، ولكنه أعاد النظر في مدوناته هو نفسه بعد أن رأى فيها بعض الأخطاء.
ويقول بطليموس أننا لو دققنا في النسخة الأخيرة من مصنفه لوجدناها تخلوا إلا من النذر اليسير من الخطأ، ويمكن أن نعتمد على كتاباته للحصول على وصف شامل للعالم المسكون من غير أن نرجع إلى أي دراسة أخرى. وهكذا كان مارونوس هو أول من ابتكر كلمة جغرافية وهى مشتقة من اللفظين اليونانيين Geo و Moraphis ثم تبعه بطليموس وشاعت الكلمة بعد ذلك في العالم وهى تعنى علم وصف الأرض.
كان بطليموس آخر العلماء العظام في المدرسة اليونانية، ولأهمية كتاباته توقفت الدراسات الجغرافية واضمحلت الجغرافية عند الرومان لأنهم أهل حرب، وقد استمر هذا الجمود في الدراسات الجغرافية ست قرون حتى ظهرت المدرسة الجغرافية العربية، والتي أخذت على عاتقها إحياء التراث الجغرافي القديم وتطويره وتجديده خلال العصور الوسطي.
في العصر الروماني الطويل ست قرون، لم يقوم أحد ببحوث في مجال الجغرافية سوى اثنين من عملاء الرومان هما " بليني Plinius، وأميان مارسيلنوس Ammian Mecellinus" ويعتبر بليني أشهر علماء الجغرافية في العصر الروماني وترجع شهرته إلى كتابه الضخم الذي أهداه إلى الإمبراطور"تاتيوس Tatus"، وعنوان الكتاب التاريخ الطبيعي Historea Naturale، وهو نوع من الموسوعات التي تتناول كل فرع من فروع المعرفة، وتقع هذه الموسوعة في 37 كتاب يهمنا منها الست عشر الأولى لأنه خصصها لدراسة الجغرافية الطبيعية والبشرية، والكتاب الأول مقدمة للموسوعة، والثاني لوصف الكون والظواهر الثانوية، ومن الثالث إلى السادس عشر في الجغرافية الو صفية والسلالات البشرية.
أما أميان مارسيلنوس فهو إغريقي الأصل ولكنه ألف الكتاب باللغة اللاتينية لغة الإمبراطورية الرومانية، وقد وضع في هذه اللغة كتاباً يقع في 31 جزء عن تاريخ الإمبراطورية الرومانية ولكن الذي يهمنا في هذا الكتاب هو ما يذكره مارسيلنوس " أهمية الجغرافية في تطوير التاريخ ". وانتشرت المسيحية في العصر الروماني وقد عمل آباء الكنيسة إلى البعد عن كل ما هو وثنى ونبذ كل ما قبل المسيح، وشككوا في كل النظريات التي قالها الإغريق مثل نظريات أرسطو وفيثاغورث وأراتوستين عن كروية الأرض وحركاتها وعن أنها مركزاً خاصاً بالكون، ويرموا كل من قال هذه النظريات بالهرطقة والخروج على الدين.
مع أن الرومان زادت معرفتهم بالعالم المعروف نتيجة فتوحاتهم وتجارتهم الواسعة، ويؤدى ذلك إلى إضافات في الجغرافيا الإقليمية، ومع هذا انصرفوا عن النظر الفلسفي للجغرافية وتدهورت الخرائط، وعادت إلى الظهور أفكار كانت قد نسيت وهى أن الأرض قرص مستدير يحيط به المحيط من كل جهة. ظهرت خرائط رومانية أسوء من خرائط الإغريق، وفى هذا الوقت الذي كانت فيه أوربا المسيحية تعيش في عصر مظلم، ظهر العرب وظهر الإسلام وأصبح لهم دولة إسلامية واسعة وكان لعلمائها فضل كبير على الجغرافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق