الباب التاسع والأربعون
في تذكر طب الزمان والتهلف عليه
والحنين إلى الألاف والأوطان
كنا قد ذكرنا فيما صدرنا به هذا الكتاب ما أنشأ الله عليه الخليقة من حب الوطن والسكن، وما درج إليه أولي النحل السليمة والعقد الصحيحة من الولوع بحفظ متقادم أعصارهم، بما اتفق من سير وحكم نخبهم وأنه حبب إليهم ما يأثره القرن بعد القرن، منهم ليظهر من جلائل صنعه في كل حين وفوائد منحه على كل حال ما توافق فيه الرواة وتلاحق به المدد والأوقات.
وذكرنا أيضا شيئا صالحا من علة الحنين إلى الألاف والأوطان، وما تأسس عليه أسباب التنافس والتحاسد بين الرجال، إلى انكشاف الأحوال عن التراضي بينهم بمختلفات الأقسام، وإن جميع ذلك حكمة بالغة من الله جل جلاله في الأنام، فأحببنا أن نجدد هنا ما يتأكد به ما تقدم، أنشد المبرد شعرا:
(1/231)
لعمري لئن خليت عن منهل الصبا ... لقد كنت وراد المشربة العذب
ليالي أعدو بين بردين لاهيا ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
قال أبو تمام:
إذا لا صدوف ولا كنود اسماهما ... كالمعنين ولا نوار نوار
إذ في القتادة وهي أنجل أيكة ... نمر وإذ عود الزمان نضار
قال دريد بن عبد الله:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعباكما معا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تقطعا
تلقت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا
أنشد أبو صالح الآمدي عن الأخفش:
سقى الله أياما لنا ليس رجعا ... إلينا وعصر العامرية من عصر
ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمر الليالي والشهور ولا أدري
مضى لي زمان لو أخير بينه ... وبين حياتي خالدا آخر الدهر
لقلت دعوني ساعة وحديثها ... على غفلة الواشين ثم اقطعوا عمري
وقال آخر:
أقول لصاحبي والعيس تهوي ... بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريا روضه بعد القطار
وأهلك إذا يحل الحي نجدا ... وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار
قال ابن الرومي:
بكيت فلم تترك لعينك مدمعا ... زمانا طوى شرخ الشباب فودعا
سقى الله أوطارا لنا ومآربا ... تقطع من أقرانها ما تقطعا
ليالي ينسين الليالي حسابها ... بلهنية أقضي بها الحول أجمعا
على غرة لا أعرف اليوم باسمه ... وأعمل فيه اللهو مرأى ومسمعا
قال معن بن زائدة:
تمطى بنيسابور ليلي وربما ... يرى بجنوب الدير وهو قصير
ليالي إذا كل الأحبة حاضر ... وما كحضور من يحب سرور
فأصبحت أما من أحب فنازح ... وأما الألى أقليهم فحضور
وإذ لا أبالي أن يضيع سائس ... ويشقى بما جرت يداه وزير
يحن إلى الألاف قلبي وقلبه ... إذا شاء عن ألافه لصبور
أبيت أناجي النفس حتى كأنما ... يشير إليها بالبنان مشير
لعل الذي لا يجمع الشمل غيره ... يدير رحى جمع الهوى فتدور
فتسكن أشجانا وتلفي أحبة ... ويورق غصن للشباب نضير
أراعي نجوم الليل حتى كأنني ... بأيدي العداة الثائرين أسير
وله:
باد الهوى وتقطعت أسبابه ... وصبا فعاود قلبه أطرابه
ذكر النميري الغواني بعدما ... نزل المشيب وبان منه شبابه
وتذكر اللهو القديم فساقه ... أن شط بعد تقارب أحبابه
غشي المنازل بالسليل فهاجه ... ربع تبدل غيره أربابه
بانوا وما من بين حي راحل ... إلا له أجل يلوح كتابه
ولقد نراه للقتول وأهلها ... جارا تمس بيوتهم أطنابه
صافت بوج في ظلال كرومه ... حتى شتا وتصرمت أعنابه
وتذكرت متربعا من أرضه ... بردت شمائمه وجال صحابه
كم قد أرب بجوه من معذق ... متهزم قرد يطير ربابه
فمحلها منه رواء مبقل ... هزج إذا ارتفع النهار فبابه
(1/232)
حل به ثمد ومحضر بهجة ... حرما وأمنا حوله أنصابه
يهوي إليها العالمون كأنهم ... قطع القطا متواترا أسرابه
إن الذي يهوى فؤادك قربه ... قد سد بالبلد الحرام حجابه
أنى ينال إذا انتمت في مشرف ... دون السماء حصينة أبوابه
لج المتيم في البعاد سفاهة ... والبين ينعب ظبيه وغرابه
حتى إذا احتمل الحبيب تبادرت ... عيناه دمعا دائما تسكابه
إن امرأ كلفا بذكرك موزعا ... حق عليكم وصله وثوابه
قد طالا ما انتظر النوال لديكم ... حتى استمل ولامه أصحابه
لو تنطق العيس اشتكت ما عالجت ... من حبسها عند القتول ركابه
قال ابن ميادة:
ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة ... بحرة ليلى حيث رببني أهلي
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي
قال ابن الرومي:
ولي وطن آليت ألا أبيعه ... وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت بها شرخ الشباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد إن غاب غودرت هالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا
اعتل رجل في غربته فتذكر أهله فقال:
لو أن سلمى أبصرت تحددي ... ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليد
قال أبو عنية:
ألا خبروا إن كان عندكم خبر ... أتقفل أم نثوي على الهم والضجر
شعر:
نفى الثوم عن عيني تغوض رحلة ... لها الهم واستولى بها بعدها السخر
فإن أشك من ليلى ليلى طوله ... فقد كنت أشكو منه بالبصرة القصر
فيا حبذا بطن الحزير وظهره ... ويا حسن واديه إذا ماؤه ذخر
ويا حسن تلك الباسقات إذا غدت ... مع الماء تجري مصعدات ومحدر
ويا حبذا نهر الإبلة منظرا ... إذا مد في إبانه النهر أو جزر
وفتيان صدق همهم طلب العلى ... وسيماهم التحجيل في المجد والغرر
لعمري لقد فارقتهم غير طائع ... ولا طيب نفسا بذاك ولا مقر
وقائلة ماذا نآي بك عنهم ... فقلت لها لا علم لي فسلي القدر
فيا سفرا أووى بلهوي وأنثي ... ونغصني عيشي عدمتك من سفر
وقال آخر:
أعلى اليأس أنت أم أنت راج ... كل هم مصيره لانفراج
ما تغنى القمري إلا شجاني ... وغناء القمري للقلب شاج
فلنوح الحمام يهتاج قلبي ... يا لقوم لقلبي المهتاج
وخليل سرى إلي ودوني ... سير شهرين للبغال النواج
عامدا ما تراه يقظان عيني ... وهو في النوم لي ضجيع مناج
جعلت نفسه لنفسي على البعد ... مزاجا أحبب به من مزاج
كم بجرجان ليت شعري مقامي ... ومتى من غمومها أنا ناج
إن أشهى إلي منها مقام ... بين دار المنجاب والحجاج
في فتومن كل أيلج يكفي ... وجهه في الظلام فقد السراج
رب فاحفظهم ورد إليهم ... غرابتي يا مؤلف الأزواج
وقال آخر:
ألا ما لعينك لا ترقد ... وما لدموعك لا تجمد
وما بال ليلك ليل السليم ... ساوره الحية الأربد
وخلاك صحبك في زفرة ... وهم عنك في غفلة هجد
فما لك من وحشة مؤنس ... وما لك عند البكا مسعد
(1/233)
فقاس الهوى وتقرد به ... فأنت الوحيد به المفرد
مللت بجرجان طول الثوى ... وبالبصرة الدار والمولد
وكم لي بها من أخ أصيد ... نماه لمجد أب أصيد
مصابيح ليل إذا أشرقت ... يفرج عنه الدجى الأسود
إذا الناس غمتهم أزمة ... فلم يبق كهل ولا أمرد
يؤمل أو يرتجى رفده ... يعود بخير ولا يرفد
ولم يحر حران ذو درية ... إلى من بكربته يقصد
سواء إذا ازدحم الواردون أقربهم فيه والأبعد
إذا ما التقوا وثقوا عنده ... بأن لن يزادوا ولن يطردوا
ويغشون في الحرب حوماتها ... إذا شب نيرانها الموقد
وأعرضت الخيل مزورة ... سرابيلها العلق المجسد
إذا وعدوا أنجزوا وعدهم ... وإن أوعدوا حان من أوعدوا
مواريث آباء آبائهم ... يورثها سيد أسيد
فلو كان يخلد أهل الندى ... وأهل المعالي إذا خلدوا
متى ألقهم بعد طول المغيب ... أجدهم على خير ما أعهد
ألا ربما طاب لي مصدري ... لديهم وطاب لي المورد
شعر:
وإن يقدر الله لي رجعة ... فجدي بقربهم الأسعد
وإلا فلا حزني منقض ... ولا حر نيرانه يبرد
فيا سادة الناس أنتم مناي ... على بعد داري فلا تبعدوا
وأقسم ما طاب لي بعدكم ... مقام ولا طاب لي مقعد
يغور هواي إذا غرتم ... وإن تنجدوا فالهوى منجد
ألا ليتني جاركم بالعراق ما جاور الفرقد الفرقد
ألا أيها الناس إني لكم ... على خالد مشهد فاشهدوا
بكى من عتاب توالت به ... قواف يرددها المنشد
فكيف إذا ما استحر الهجاء ... إذا لا يقوم ولا يقعد
قال محمد بن عبد الله بن ظاهر:
يا جبل السماق سقيا لكا ... ما فعل الظبي الذي حلكا
فارقت أوطانك لأنه ... فارقك الخل ولا ملكا
فأي أوطانك أبكي دما ... ماءك أو طينك أو ظلكا
أو نفحات منك تأتي إذا ... دمع الندى تحت الدجى بلكا
حدث الزيدي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: كانت ظبية تحت محمد بن أبي بكر بن مسور وكانت ذات مال ولا مال له، فخرج يطلب الرزق فلما كان في موضع يقال له: بلكثة، انصرف راجعا فدخل إليها فقالت: الخير رجعت فقال شعرا:
بينما نحن بالبلاكث فالقاع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذكراك وهنا فما استطعت مضيا
ولو أن ما أهدين لي كان شربة ... ببطن اللوى من وطب راع شفانيا
وأنشد أبو بكر بن دريد قال: أنشدني عمر أن الكلابي لرجل من قومه قال شعرا:
يحن إلى الرمل اليماني صبابة ... وهذا لعمري لو رضيت كثيب
فأين الأراك الدوح والسدر والغضا ... ومستنجز عما يحب قريب
هناك تغنينا الحمام ويجتني ... جنا اللهو يحلو لي لنا ويطيب
قال أعرابي:
أيا أثلاث القاع من بين توضح ... حنيني إلى أظلالكن طويل
ويا أثلاث القاع قد مل صاحبي ... ثوائي فهل في ظلكن مقيل
ويا أثلاث القاع ظاهر ما بدا ... على ما بقلبي شاهد ودليل
ويا أثلاث القاع قلبي موكل ... يكن وجدوى خيركن قليل
ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة ... إلى قرقري حتى الممات سبيل
قال أعرابي :
ألا حبذا والله لو تعلمانه ... ظلالكما يا أيها الطللان
وماءكما العذب الذي لو شربته ... وبي صالب الحمى إذا لشفاني
وأنشد الأحنش علي بن سليمان:
(1/234)
اقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هجرت ذميم
سقيا لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم
لو كنت أملك منع مائك لم يذق ... ما في فلاتك ما حييت لئيم
قال الرياشي أنشدني أعرابي:
سلم على قطن إن كنت تاركه ... سلام من يهوى مرة قطنا
قلت لبيك إذ دعاني لك الشوق ... وللحاد بين كرا المطيا
ثم كروا صدور عيس عتاق ... مضمرات طوين السير طيا
ذاك مما لقين من دلج الليل ... وقول الحداة بالليل هيا
فقالت: لا جرم والله لأشاطرنك ملكي فشاطرته.
قال أبو تمام:
وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي
مقيم الظن عندك والأماني ... وإن تلفت ركابي في البلاد
معاد البعث معروف ولكن ... ندى كفيك في الدنيا معادي
وأين تجور عن قصد لساني ... وقلبي رائح برضاك غاد
ومما كانت الحكماء قالت ... لسان المرء من خدم الفؤاد
قال البحتري:
أملي فيكم وحقي عليكم ... ورواحي إليكم وابتكاري
واضطرابي في الناس حتى إذا عدت ... إلى حاجة فأنتم قصاري
قال أبو تمام:
كل شعب كنتم به آل وهب ... فهو شعبي وشعب كل أديب
إن قلبي لكم لكالكبد ... الحرى وقلبي لغيركم كالقلوب
أبو عبد الله بن الأعرابي قال: أنشدتني امرأة من أهل اليمامة لنفسها وكانت مرضت بمصر شعرا:
تحاشد جاراتي فجئن عوائدا ... قصار الخطى تجر البطون حواليا
وجئن برمان وتين وفرسك ... وبقل بساتين ليشفين دائيا
شعر:
أحبه والذي أرسى قواعده ... حبا إذا ظهرت أعلامه بطنا
فليتنا لا نريم الدهر ساحته ... وليته حين سرنا غربة معنا
ما من غريب وإن أبدى تجلده ... إلا سيذكر عند الغربة الوطنا
قال أعرابي:
والذي إن كذبت اليوم عاقبني ... وإن صدقتكم ربي فعافاني
ما قرت العين بالأبدال بعدكم ... ولا وجدت لذيذ النوم يغشاني
ومن المستحسن في هذا المعنى قوله:
شيب أيام الفراق بمفارقي ... وانشرن نفسي فوق حيث يكون
وقد لان أيام اللوى ثم لم يكد ... من العيش شيء بعدهن يلين
يقولون: ما أبلاك والمال غانم ... عليك وضاحي الجلد منك كثين
فقلت لهم: لا تعذلوني وانظروا ... إلى النازع المقصور كيف يكون
يعني بالنازع المقصور: بعير حن إلى وطنه فقيد مخافة أن يهيم على وجهه وهذا في الإبل معروف لذلك قال القائل:
لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت ... بعد الجميع ويصبر الإنسان
قال:
هبت وما في الأفق منه قزعة ... وليس منه أحد على أمل
فأنشأته قطعا قمت ما ... زال وما زالت به حتى اتصل
وطأطأت بالأرض من أكتافه ... وسددت منه الفروج والخلل
حتى إذا كان بعيدا فدنا ... وكان في السير خفيفا فثقل
وأسمع الأصم صوت رعده ... ووقر السمع الصحيح وأعل
وأبصر الأكمه ضوء برقه ... وخطف الطرف الحديد وأكل
وصر حتى قيل هذا حاصب ... من السماء وعذاب قد أظل
ونحن مصنوع لنا مدبر ... فيه ولكلنا خلقنا من عجل
حلت عزاليه بسر من رأى ... فلم تزل تعلها بعد النهل
إذا تلكا هتف الرعد به ... وأومضت فيه البروق فهطل
ليل التمام والنهار كله ... متصلا مذ غدوة حتى الأصل
فما دنا حتى اتقى الناس أذى ... إفراطه وقالت الأرض بجل
(1/235)
شرقت فيما ضر منه أهله ... وما شركت في السرور والجذل
ولا نقعت غلة بمائه ... في معشر قد نقعوا به الغلل
ولا أجلت الطرف في رياضه ... ولا أسمت الشرح في الوادي البقل
ولا تحملت له صنيعة ... يشملني مرفقها فيمن شمل
إلا بتحميل السلام سيله ... إلى مدينة السلام إن حمل
إلى بلاد جل إخواني بها ... ومن أعز من صديق وأجل
خرج عوف بن محلم مع عبد الله بن طاهر إلى متصيد، فكان عبد الله يحدثه وسمعه يثقل عن الاستماع فانبرى يقول شعرا:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بشطاط الخنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وعوضتني من زماع الذي ... وهمه هم الدثور الهدان
فتهت بالأوطان وجدا بها ... وبالفواني أين مني الفوان
وصرت ما في لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله وأثني به ... على الأمير المصعبي الهجان
وقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقيل ينعاني إلي نسوة ... أوطانها حران فالرفتان
سقى قصور الشاذياخ الحيا ... من بعد عهدي وقصور الميان.
http://shamela.ws/browse.php/book-11469/page-447
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق