http://www.kalema.net/v1/?rpt=901&art
مجلة الكلمة تصدر عن منتدى الكلمة للدراسات واﻻبحاث.لبنان ، بيروت
العدد ( 64 ) السنة السادسة عشرة ، صيف 2009م - 1430هـ
أدب الرحلة وأسئلة النهضة: الرحلة من منظور التجربة المغربية
إدريس هاني
[1]
* الرحلة من منظور آخر
سنقف هنا على عيّنة أخرى من أدب الرحلة بعد أن سبق وقدمنا صورة عن رحلة رفاعة الطهطاوية، بوصفها رحلة نموذجية شكّلت أحياناً مرشداً ومرجعاً لتوصيفات رحلوية لاحقة. وهي بالفعل في العصر الحديث تحتلّ مكانة الرحلة التي قام بها أمثال الشريف الإدريسي أو ابن بطوطة في العصر الوسيط. إنها عمل كلاسيكي بامتياز. هناك إلى جانب ذلك، رحلة قام بها سياسيون وسفراء وأحياناً علماء / سفراء في إطار مهام رسمية. وهو ما ميّز نموذج الرحلة المغربية الحديثة. بعضهم لم يفته أن يقرأ «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز». بعضهم رأى أوروبا قبل رفاعة الطهطاوي. فيما رآها آخرون بعده. إن الوقوف على أنماط أخرى من المواقف والتوصيف ضروري هنا. إنه على الأقل يعكس طبيعة الجدل القائم يومها حول مستوى التعاطي مع صدمة التحديث. واستيعاب مستويات التموقف من سياسات أوروبا، وأخلاقها ومن المسألة الثقافية والدينية وباقي مظاهر العمران. هذه الرحلة، تتعلّق برحّالة مغاربة قلّما وجدت عناية حقيقية من قبل الباحث المشرقي الذي يكاد يجهل عنها كل شيء. وهو يضارع عدم عنايته الكافية برسالة الإصلاح وخطاب النهضة في هذه الربوع. ومع ذلك لا يسعنا إلاّ القول: إنهم في جانب من ذلك هم معذورون، ما دام المغاربة أنفسهم لم يعتنوا بتراثهم الوسيط والحديث العناية المطلوبة، رغم المحاولات المعاصرة التي لم تستوعب الجزء الأقل من هذا الإرث الثمين. وهم في جانب من ذلك معذورون أيضاً، لأن المغرب شكّل تجربة فريدة ما كان لها أن تتقاطع مع مجمل السياسة في المشرق نظراً لاستقلال التجربة المغربية عن المشرقية منذ العصر الوسيط. وليس هناك من المشارقة من اعتنى بالأدوار المغربية في العهد العثماني إلا ما نذر. وهذه العناية نفسها ظلّت تعاني من الضعف حتى في المغرب نفسه قبل أن يبدأ شكل -ولو محدود- من الاهتمام بأدب الرحلة وإخراج متونها من سجن المخطوط والحجري إلى عالم الطبع والنشر. قام ببعض هذه الأدوار آحاد ممن ولعوا بالتأريخ السياسي للمغرب الحديث. ويبدو لي أن المهمة لا زالت تقتضي جهداً إضافيًّا حيث لم ينكسر القلم في هذا المضمار بعد. ثم هناك قدر الجغرافيا، حيث ما يقع في الشرق يتعلق بالمركز، وليس للمغارب من ذلك كلّه إلا هذا الهامش الذي تقف عنده. سواء أتعلق الأمر بالشرق أو بالغرب. فهي الهامش من الجهتين قلّ أن ينظر إليها بعين التفرد والاستقلالية والتّمركز. وقدر المغارب أن تكون على هامش هذا الحدث مهما بلغ سلطان تجربتها. وليس لها إن اقتضى الحال وفي أوج قوتها إلاّ التفرد والاستقلال بتجربتها. وهذا ما حدث للمغرب الجوّاني وحده بصورة تدعو إلى فائق الاهتمام. ومن هنا قصدت أن أتوقف عند عينات من هذه الرحلة في سياق التركيز المطلوب على تجربة يكاد لا يعلم بها -بعد لفيف من المستشرقين المتخصصين في تاريخ المغرب الحديث- إلاّ المتخصصون المغاربة. وهم مع ذلك، في هذا الهمّ، قلّة قليلة. وفيها سندرك أن الاهتمام بخطاب النهضة في السنوات الأخيرة في المشرق العربي بات يستهلك نفسه بإسراف. وهو لا زال يعيد عرض المعروض من دون حتى تأويل جديد ولا إضافات معتبرة. وكأن هذا الخطاب اقتصر على خطاب السيد جمال الدين وحوارييه من أمثال محمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي وما شابه من رجالات الإصلاح الكبار. وبتنا لا نقف على مصلح جديد لم تضبطه عدسة التحقيق غير هذا النفر. وفي ذلك تكريس للحصر العلمي والعجز عن إغناء التراث الإصلاحي بنفض الغبار عن مصلحين لم تبلغهم يد العناية وظلوا مجاهيل في نظر مؤرخي حركة الإصلاح الحديثة في العالم العربي والإسلامي. وللأمانة، فإن هذا ليس مُصاب المغارب فحسب، بل هو مُصاب العرب ما عدا مصر والشام. ففي العراق هناك من رواد الإصلاح والنهضة من لا يعلم بهم وبآثارهم عموم العرب وإن برعوا في هذا الخطاب. وكذا في سائر البلاد العربية هناك رواد إصلاح من المحيط إلى الخليج لم يجدوا لهم مكاناً مناسباً في هذا التأريخ الاختزالي لرواد النهضة والإصلاح العربي الكلاسيكي. ومن خلال هذه العيِّنات التي سنقدمها يظهر أن الولع برسالة الإصلاح ظل همًّا مشتركاً عند سائر رجالات المرحلة. وأن المغرب كان أولى بأن تتشكل لديه تجربة خاصة في هذا المجال ما زالت لم تنفض عن تراثها الغبار. إننا نجدنا في مثال الرحلة المغربية أمام نموذج لرحّالة سفاري وسياسي وهو في الغالب شيخ فقيه ابن القرويين، لا يقل رسوخاً في العلم الشرعي عن الشيخ الأزهري. وبعضهم مشهود له بالعلم والفقاهة التي تجاوزت حدود المغرب. فصاحب «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» مما ذاع صيته في الأزهر وغيره من الجامعات الدينية. ما يعني أنه في الرحلة هو أبعد في الفقاهة والخبروية الدينية من رفاعة الطهطاوي نفسه. كما هو في الموقعية السياسية يفوق الطهطاوي ساعة عزم هذا الأخير على الرحلة وهو شابّ في مقتبل العمر. لكن نظرة السياسي هنا قد تكون مختلفة. ودرجة الإحساس بالعزة ومجد الأمة تظل متفاوتة. وهذا يعكس بالتالي طبيعة الموقف والمنظور والتجربة والشرط الموضوعي للدولة التي كان يمثلها هذا الرحّالة أو ذاك. وأحياناً كان الرحالة الأكثر إعجاباً بمظاهر تلك النهضة يذكّر بين الفينة والأخرى بقيمة الهوية ومجد الأمة الضّائع حتى حينما يتعلق الأمر بالطهطاوي والحجوي الثعالبي، من باب التذكير بأنهم لم يقطعوا مع جذور الأمة. وربما كان ذلك من باب الرقابة الذّاتية. لأن الإحساس بالهوية لا يزال كبيراً في الأمة. ولا يملك الرحّالة ألَّا يُقدِّم شهادة بهذا الاهتمام تجاه أمر يتعلق بالهوية والتراث والثقافة المحلية يفوق ويرجح أيّ اهتمام آخر متى غدا التخلّي عن الهوية شرطاً لامتلاك مفاتيح التقدم.
* الرحلة من منظور التجربة المغربية
ما يميز الرحّالة المغربي عن نظيره أو سلفه الطهطاوي، أن الأول كان محكوماً بجملة من الالتزامات تجاه السلطان والدولة. في حين مثل هذا لم يحصل كله مع الطهطاوي. ومن هنا بات واضحاً أن تشوّق الطهطاوي للحداثة فاق تشوّق هؤلاء الرحّالة المغاربة لها باستثناء الحجوي الثعالبي وإلى حد ما الصفار. إن الرحالة المغربي يعرف ما يطلبه، ألا وهو القوة: أي التحديث. كما أن الطهطاوي عرف المطلوب، ألا وهو النهضة: أي الحداثة. بين التحديث والحداثة سفر فكري آخر في رحاب المطارحات الفكرية التي أعقبت تلك الحقبة وتجلّت بصورة كبيرة في المنتج الأيديولوجي العربي المعاصر. فطلّاب التحديث يسلكون مسلك الانتقاء والتمييز بين نهضة الفكر ومنجز البنى التحتية. وطلّاب الحداثة لا يميّزون بين ذلك البتة. بل يرون أن ثمة علاقة قائمة بين الفكر والواقع.. بين الثقافة والممارسة.. بين الفلسفة والعمران. إن الإغراق في هذا وذاك هو من العويصات التي أرّقت العقل العربي وتاهت به في المتاهات. نعم ثمة ما يجب قوله بهذا الخصوص؛ فالرّحالة المغاربة بمن فيهم أولئك الذين ميّزوا بين الحداثة والتحديث كانوا يدركون أهمية التقدم الذي تشهده الثقافة والسلوك والأخلاق الأوروبية. لكنهم كانوا ينظرون بحذر ولا يسمحون لشيطان الإغراء والانبهار أن يذهب بهم المذاهب وأن يتيه بهم بين السبل. هكذا بدا واضحاً أن المميز للرحلة المغربية قبل رحلة محمد بن عبدالله الصفار ومن عاصره أو جاء بعده -أي المميز لها حتى قبل رحلة الطهطاوي نفسه- أنها أكثر ميلاً إلى سؤال الهوية منها إلى سؤال الترقي. فلو استثنينا رحلة الصفار وكذا الحجوي الثعالبي، سوف نجدنا أمام نمط من الوصف يتمركز حول سؤال الهوية الثقافية والدينية فيه من الاستقباح والاستهجان لعوائد الفرنجة وتقاليدها ما يخفي الاندهاش الجانبي ببعض مظاهر العمران الأوروبي. لا يعني ذلك أن عنصر الإعجاب بمظاهر النهضة الأوروبية لا يوجد في هذا النمط من الأدب الرّحلاتي. لكنه حضور غير مصحوب بالدّهشة، إن لم نقل مغلوب للنظرة الاستعلائية التي تجد تعويضها الكامل في اعتقاد الرحالة بالأفضلية الرمزية لدينه وتاريخه وثقافته. ولكننا وجدنا هذه الخاصية تتراجع مع الصفار كما تكاد تختفي تماماً مع الحجوي الذي شكّلت تجربته غاية الموقف الإيجابي من التحديث والعصرنة تميّز به عن نظرائه في المغرب واقترب به من تجربة الطهطاوي إلى حدّ ما. لكن يبدو أن هاجس الاهتمام بمظاهر الترقي بدا يتكامل شيئاً فشيئاً في تجارب الرحلة المغربية، ما يؤكد أن هذا الاختلاف في طبيعة الموقف يعود إلى طبيعة وظيفة الرحالة وتكوينه وأهدافه. نستطيع التمييز هنا بين أشكال من الرحلات الغالب على أكثرها أنها كانت سفارية، لأصحابها ولاء خاص للسلطان وهم يؤدون وظيفة سلطانية في الديار الأوروبية غالباً ما كانت بعثات دبلوماسية هدفها المشاركة في احتفالات وطنية أو حمل رسائل سلطانية أو التفاوض حول فكاك الأسرى. بعض من هذه الرحلة كما ذكرنا حدث قبل رحلة الطهطاوي، في حين أن بعضها الآخر حدث بعده. وفي كلتيهما نجد تحوّلاً كبيراً تجاه سؤال النهضة. بل نجد تأثيراً متميزاً لرحلة الطهطاوي. وهنا أمكن القول: إن رحلة الطهطاوي باتت تشكّل لحظة تاريخية قطيعية يمكننا بعدها تقسيم الرحلة إلى نمطين: ما قبل رفاعة الطهطاوي وما بعده. قد تكون بعض من هذه الرحلات التي سنتعرض لبعضها، قد حدثت متأخرة عن تجربة رفاعة الطهطاوي. لكنها جاءت مناسبة للظرفية التي فرضت على المغرب الالتفات إلى الضفة الأخرى وما كانت تشكّله من خطر حضاري على المغرب. لاسيما وأن هذا الخطر كان سبباً في احتراز المغاربة من أوروبا، حيث باتوا أخبر بقدراتها قبل أن يفاجؤوا هم أيضاً بنهضتها العسكرية التي كانت أوّل ما أذهل رحّالة سفاري مثل الصفّار. وهنا فقط ندرك أيضاً لماذا كانت هزيمة المشرق الإسلامي مبكرة حينما نقيسها بهزيمة المغرب كآخر القلاع التي سقطت بيد الأوروبيين. فحتى حينما غزا نابوليون مصر كان يحتفظ باحترام خاص للسلطان المغربي. نستطيع القول: لقد سقط الباب العالي قبل أن يسقط السلطان المغربي الذي كان لا يزال يخوض بعد سنوات من سقوط الخلافة العثمانية ما عرف في المغرب بالجهاد البحري، وما عرف عند الأوروبيين يومها بالقرصنة. كان لا بد أيضاً من استحضار معطى آخر ألا وهو أن المغرب هو الدولة الوحيدة التي ظلت خارج الهيمنة التركية العثمانية في عزّ قوتها ومجدها. وبالتالي وصفت في بعض الرسائل الأجنبية بالإمبراطورية. هذا إنما يؤكد أن المغرب كان له نصيب قديم من هذه الرحلات في نطاق التبادل الدبلوماسي. لكنها لم تكن تلتفت إلى ما التفت إليه الرحّالة المغربي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث ميلاد ما سماه علال الفاسي ببداية الانبعاث المراكشي. وحتى ندرك الأسباب الموضوعية لتميز خطاب الرحّالة المغربي، وجب التذكير أيضاً بأن الوحدة السياسة للكيان المغربي والقرب من الديار الأوروبية، جعل النمط الغالب على الرحلة هو الرحلة السفارية. وهي لذلك تميّزت بنوع من التعالي والتحدّي والاعتزاز الهوياتي. مهما حاول أصحابها التقيد بالموضوعية في الوصف كانت تأخذهم حالات من التحيز. وذلك لأنهم لم يستطيعوا التخلص من إحساسهم بأنهم الأمة العظيمة الغالبة والقاهرة والمهابة من قبل الفرنجة على امتداد قرون من الزمان. فهم -باستثناء بعضهم فقط كالصفار وإلى حد كبير الحجوي- يذمون كثيراً ويستحسنون من معالم قوة الديار الأوروبية ما يرون أمتهم أولى به من الفرنجة أنفسهم. وقد كان من الطبيعي أن يتأخر هذا النمط من الخطاب الرّحلوي المتمحور حول سؤال النهضة، حيث إن المغرب حتى حدود القرن التاسع عشر، لم يكن على يقظة واهتمام بالخطر الذي كان يتهدده من جهة الشمال، الآخذ يومئذ في تطور حثيث ونهضة عسكرية ومدنية لا تضاهى. فالعلاقات الطويلة مع فرنسا وباقي الديار الأوروبية كانت تعرف حالة من الاستقرار النسبي حتى مع وجود واقع حركة القرصنة التي شكّلت ثابتاّ من ثوابت سياسة السلطان المغربي، لأنه كان يدعمها. بل لم تعد القرصنة أمراً حرًّا فوضويًّا بل كان عملاً منظماً تسهر عليه الدولة في إطار ما عرف يومها -كما ذكرنا- بالجهاد البحري. وكانوا يقومون بالقرصنة لدعم خزينة الدولة وإثبات قوتهم عبر هذا العمل الروتين الذي كانوا يقومون به شهرين في كل عام. يؤكد ذلك قول المهدي الغزال: «ومن بركة مولانا الإمام وفضله وعظمته وعدله إلقاء الجزع من سفنه في قلوب المشركين، وبقاء الجزع من قراصينه الجهادية في أحشاء أعداء الله الكافرين، يحذّر منها بعضهم بعضاً، ويتنكبونها في البحر وطرقه طولاً وعرضاً. على أن سفن سيدنا الجهادية مقصور جهادها على شهرين في السنة... وصار العدو الكافر يترك البحر في الشهرين المعلومين ويسافر بقية السنة لينال في ذهابه وإيابه مأمنه»[2].
ويؤكد بروديل «في المتوسطي والعالم المتوسطي»، أن القرصنة كانت ظاهرة كونية، ليست ملكاً لطرف آخر في البحر المتوسط[3].
وعلى الرغم من أن نشاط القرصنة كان عامًّا متعارفاً، أدارته دول ومارسته بوصفه جزءاً من نشاطها العسكري البحري الروتيني، إلاّ أن فرنسا بدأت تستغلّ هذا النشاط لتتحرّش بالمغرب. وقد تحدثوا عن جملة الكتابات التي كانت تحرّض فرنسا ضد المغرب باسم ملاحقة القراصنة -من سلا- من حيث كانت مجرد ذريعة لتنفيذ مخطط بعيد المدى في رهاناته الاستراتيجية والحضارية. من بين تلك الكتابات التحريضية ذكروا كتاب فولني (Volney Ruines Les) نشر في باريس سنة 1791م: «إن العالم الإسلامي هو مثال واضح ورمز للاستبداد»[4]. وفي السياق نفسه يذهب جوزيف كوراني في (Gouvernement. Recherches sur la science du) إلى القول: «ينبغي على الأمم الأوروبية أن تمنع البرابرة (بلدان إفريقيا الشمالية) أن تتحكم في البحار وتقوم بهجماتها على صقلية وسردينيا وفي سواحل إيطاليا والبرتغال وإسبانيا وفي بعض الأحيان في سواحل فرنسا..، وعليها (أوروبا) أن تخير هؤلاء القراصنة على الاشتغال بزراعة أراضيهم كما من واجبها القضاء على حكوماتهم الاستبدادية»[5].
استمرت علاقة المغرب بفرنسا حتى بعد إقدام هذه الأخيرة على احتلال كل من إسبانيا والقاهرة. ولم يكن الخطر الفرنسي بالنسبة إلى المغرب وارداً حتى تلك اللحظة. لقد تأخر التفات المغرب إلى الخطر الفرنسي. وجدير بالإشارة الوقوف على بعض الحقائق التي من شأنها بيان الفارق في الميل والذوق واللهجة بين النمطين المذكورين من الرحلة. لماذا الرحالة المغربي حتى في لحظة الاندهاش والصدمة لم يكن مأخوذا حتى الأخير في دهشته من التفوق الحضاري لفرنسا؟ إن للمغرب حكاية أخرى في موقفه من التحولات السياسية التي شهدتها فرنسا وكان لها أثر في باقي التحولات التي عرفتها الديار الأوروبية فيما تلا ذلك. وأعني تحديداً الموقف السلبي للمغرب من الثورة الفرنسية. علينا أن ندرك أن موقف المغرب من الثورة الفرنسية لم يكن إيجابيًّا منذ البداية لأسباب تتعلق بالموقف السلطاني منها ومن رجالاتها. وليس مرد ذلك إلى أن هواه كان مع فرنسا أقول الثورة، أو للعلاقة الخاصة التي استمرت بين البلدين، ونظراً للموقف الإنجليزي أيضاً الذي ما فتئ ينقل معلومات مشوشة إلى المخزن عن أحوال الثورة الفرنسية فحسب، بل مرجع ذلك إلى عدم استيعاب هذه النظم التقليدية بما فيها الأوروبية حينئذ للبديل الذي طالبت به الثورة الفرنسية ونظراً للخطر الذي مثلته إزاء باقي النظم الأخرى بشعاراتها وفوضاها العارمة. وقد انخرط المغرب بقوة يومها في هذه الحملة، نظراً لعلاقته المميزة مع الإنجليز. حتى أنها كانت العلاقة الوحيدة بين المغرب ودولة أوروبية تميّزت بالكثير من الاحترام للجانب المغربي، بخلاف خطابه الصارم والشديد والمستعلي ضد باقي أقطار أوروبا. عبّر الموقف الرسمي بكل وضوح عن موقفه الصارم من حدث إعدام الملك لويس السادس عشر (يناير 1793م). فقد كتب السلطان المغربي رسالة جاء فيها: «لقد بلغني، أن كل سلاطين أوروبا جمعوا قوتهم واستعدوا لإعادة عرش فرنسا إلى يد ابن الملك الذي اغتيل بكل بشاعة.. وأُعلن أمام الملأ أنني أساندهم وأرغب أن ينفذوا ما عزموا عليه من أجل سعادة البشرية.. وبذلك فإني مستعد للتعاون معهم في هذه المسألة، كما أنني أمنع الدخول إلى أراضينا على كل هؤلاء الفوضويين والأوباش الذين لا يعترفون بعاهلهم الشرعي»[6].
إذن كانت الثورة الفرنسية في نظر المغرب ثورة أوباش وفوضويين. ومثل ذلك كان الموقف التركي العثماني من هذه الثورة. فلا ننسى الرسالة التي بعثها الخليفة العثماني سليم الثالث إلى السلطان أبي الربيع (1799م) يصف فيها الثوار الفرنسيين بأنهم: «الطائفة الخائنون والشرذمة الملعونون ذوو مكر وفساد وأهل بغي وعناد، لا يؤمنون بوحدانية الله ولا يعترفون برسالة محمد بن عبد الله، منكرون ليوم البعث والنشور والويل والثبور»[7].
كذلك إن المؤرخين المغاربة تجاهلوا أحداث الثورة. ومن تحدّث عنها وهم قلّة عبّروا عن رأي السلطة نفسها، كما فعل محمد الجنوي حينما تحدّث عن ثورة الطريقة الدرقاوية، مقارناً بينها وبين الثورة الفرنسية؛ قال: «قام درقاوة في قطرنا، والفرنسيس في قطرهم، وينشأ عنهم جميعاً فساد هذا العالم»[8].
يذكر أيضاً أن مصدر الصورة الهجينة للثورة الفرنسية هي من إيحاء بريطانيا. كانت هناك محاولات بريطانية لنقل صورة مشوهة عن الثورة الفرنسية إلى المخزن وتحريضه وتخويفه بأن فرنسا قادمة على احتلال مدينة سبتة. وكانوا يحاولون إقناع السلطان المغربي بالتحالف مع الدولة العثمانية ضد فرنسا. غير أن موقفاً مغربيًّا جديداً سيطرأ لمجرد أن تتحرك فرنسا باتجاه السلطان المغربي لتغيير صورتها لديه. وقد نجح في ذلك نابوليون ببراعة سياسية تبخرت معها كل المحاولات البريطانية. أعادت دبلوماسية نابليون الثقة إلى العلاقة بين المغرب وفرنسا فيتغيّر الموقف المغربي رأساً. تكرّست هذه الثقة عبر مجموعة من المواقف من بينها أن نابليون حينما استولى على مالطة وفي أثناء اتجاهه إلى مصر، طمأن السلطان المغربي عبر قنصله كييط حيث قال: «سيكون لهذا الحدث وقع خاص عند مولاي سليمان كبرهان على صداقتنا المتينة معه، لأن فرنسا سترسل له الأسرى المغاربة الموجودين في الجزيرة ومن ضمنهم امرأة من سلالة الأسرة الشريفة»[9]. بل ويتم طمأنة الجهاز القنصلي الفرنسي للمغرب بعد استيلائه على مصر، بتأمين مرور الحجاج المغاربة القاصدين مكة عن طريق الإسكندرية أو القاهرة. وقوله: «إنه يستطيع دائماً إرسال المغاربة إلى مصر سواء للتجارة أو لتأدية فريضة الحج إلى قلة»[10].
وهذا يؤكد أن المغرب حتى ذلك الوقت لم يكن يستشعر خطر فرنسا، أي حتى بعد احتلالها لمصر. غير أنه أدرك هذا الخطر حينما واجهه عمليًّا في الميدان على إثر صدمة كانت هي كبرى صدمات المغرب تجاه التفوق الفرنسي وبالتالي الأوروبي، الذي لفت المغرب إلى حجم الفجوة بينه وبين قوة فرنسا وأوروبا. وكان ذلك بسبب ما حصل في معركة «إيسلي» 1844 الشهيرة، التي شكّلت منعطفاً كبيراً، أعقبته بعد ذلك تجربة الرحلة في نمطها الثاني المصحوبة بالحسرة على الفارق الحضاري بين العالمين. يصف بروكلمان هذا الحدث قائلاً: «وفي 14 آب دارت رحي المعركة في وادي إيسلي، أحد روافد نهر تافنا، بين الفرنسيين والجيش المراكشي وكانت عدته 65 ألف رجل تحت قيادة ابن السلطان، ولم يكن تحت تصرفه أكثر من ستة آلاف مقاتل، ومع ذلك فقد استطاع أن يهزم هذه الجيوش الضعيفة السلاح، الفاقدة النظام»[11].
كان خطاب الرحلة بمثابة التعبير الميداني عن عمق هذه الفجوة الحضارية الآخذة في الاتساع. وكان المركب النفسي التاريخي هو الهزيمة العسكرية المنكرة. لذا، كان تركيز الرحلة دائماً على الجانب المتعلق بالتنظيم والإدارة والهيكلة... وقلما كان الاهتمام بالوقوف عند الظاهرة الاجتماعية والفلسفية للنهضة الأوروبية. وسوف أضرب أمثلة على هذه الرحلات «المغربية»، لكي نقف على الهواجس الحضارية التي تحكّمت بها وسبب اختلاف المزاج السياسي والفقهي للرّحالة المغربي في تعاطيه مع تفاصيل الرحلة لا سيما الباريسية منها.
* خصائص الرحلة المغربية
يزعم سعيد بنسعيد العلوي مؤرخاً للرحلة المغربية أن لدينا في الخزانة المغربية محققاً ومخطوطاً عشرة نماذج، لعلها هي الأهم من كل الرسائل والكتب التي أُلِّفت في هذا المجال، إن لم تكن هي جميع ما لدينا. وهذا القول على أهميته لا يحجب الظّن بوجود ما يفوقها ما دام الاستقراء التام لم يقع ولم يُدّعَ من قبل ولا من بعد. وإن كان اهتمام الباحث بهذا المفصل الثري من التراث المغربي الحديث نموذجاً مميزاً ومفيداً. فمن خلال إدراج عناوين الرحلة المغربية إلى الديار الأوروبية، نكتشف أنها كانت من نمط الرحلات السفارية:
- الإكسير في فكاك الأسير لمحمد بن عثمان المكناسي (1779 - 1780) زمن الرحلة).
- البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر لمحمد بن عثمان المكناسي نفسه (1781 - 1782).
- رحلة الصفار (محمد بن عبد الله) (1845 - 1846).
- الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية لمحمد الطاهر الفاسي (1860).
- تحفة الملك العزيز بمملكة باريز لإدريس العمراوي (1908).
- التحفة السنيّة للحضرة الحسنيّة بالمملكة الإسبنيولية لأحمد الكردودي (1884).
- إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار لإدريس الجعايدي (1876).
- رحلة الغسال للحسن الغسال (1902).
- حديقة التعريس في بعض وصف ضخامة باريس لعبد الله الفاسي (1909).
- الرحلة الأوروبية لمحمد الحجوي (1919).
تتوزع الرحلة المغربية إلى آفاق مختلفة منها ما هو شرقي ومنها ما هو غربي. فبينما كانت الرحلة إلى أوروبا سفارية كانت الرحلة إلى المشرق علمية. والغالب على الرحلة المشرقية هو الرحلة الحجازية التي كانت تتم لغاية طلب العلم ونيل الإجازات والحج. وهذه الرحلة المشرقية لا تهمنا هنا. لأن الغاية تتعلق بخطاب رحلة تتمحور حول النهضة والتقدم. فهو خطاب سياسي وفلسفي ونهضوي أكثر مما هو إنشاء أدبي ينجز في العادة للتسلية والإمتاع. في الرحلات من النمط الثاني، تحتل «باريس» عند الرّحالة مكانة مميزة. يصفها الرحالة المغربي وصفاً يقرب من وصف الطهطاوي، وأحياناً يتوسع في بعض المعالم أكثر من الطهطاوي. لكننا مع ذلك لا نكاد نقف عند الطهطاوي على مثالب هذه المدينة وقوفنا على مثالبها عند الرحالة المغربي. وليس بعيداً أن بعضهم التقط عيّنة من نقد الطهطاوي لبعض مظاهر المدنية الفرنجية وتوسع فيه أبعد مما فعل هذا الأخير الذي بلغ به الإعجاب بنهضة الفرنجة ما جعله يسرف في التمجيد كما يسرف في هجاء المحلّي إلى درجة الوقوع من حيث لا يشعر في خطاب عنصري كما مرّ معنا. لكن مع بعض الرحالة المغاربة نقف على الوجهين مع. وحتى في عزّ الإعجاب يظل خطاب الهوية حاضراً حضوراً مكثّفاً. أذكّر بأن الأسباب الموضوعية لذلك تتجلى في أنّ صدمة الحداثة في الديار المصرية سابقة منذ الغزو النابليوني لمصر. وليس المطلوب حينئذ من الرحالة السفاري المغربي أن ينطلق من موقع الإحساس بهذا الغلب الحداثي حيث لا يزال المغرب بلداً يحسب له حساب في الدوائر الأوروبية حتى أن نابليون نفسه كان يهدّئ اللهجة مع المغرب في اللحظة نفسها التي غزا فيها مصر. ولا يرجع الأمر بالتأكيد إلى عوامل أخرى ما دام الرحّالة المغربي كان أكبر مقاماً من الناحية العلمية والفقهية وكذا الخبروية من الطهطاوي نفسه كما ذكرنا حينما همّ بالرحلة الباريسية. وقد ضربنا أمثلة من أمثال الحجوي الثعالبي وهو عالم مجتهد فضلاً عن وظائفه في الدولة إذ تولّى مناصب عديدة في الدولة منها وظيفة نيابة الصدارة العظمى في وزارة العلوم والمعارف فضلاً عن رسائله الاستشارية وخطابه التنظيري الذي عالج كل معضلات الدولة والإدارة والاجتماع والفكر والوعي.. أي ليس السبب في هذا التميّز هو الخبرة والمكانة العلمية والوظيفة السياسية أو الإدارية التي هي من رجحان الرحالة المغربي، بل السبب العارض على اختلاف التجربتين التاريخيتين وما كان يمليهما الوضع على اختيارات المغاربة الذين لم تتمكّن منهم صدمة الحداثة تمكّنها من الديار المصرية. وهذا سنذكره في الأمثلة التالية من خلال بعض من هذه النماذج الرّحلوية. ومن الجدير القول: إن ثقل المهمات الرسمية والوظائف السفارية كانت في حدّ ذاتها مانعة للرحّالة المغاربة من أن يكونوا أكثر احتكاكاً وتجرّداً من الطهطاوي. لقد سافر الطهطاوي إلى الديار الباريسية وهو عالم ومثقف صاحب وظيفة دينية تقتصر على مرافقة البعثة الطلابية، لكن الرحالة المغربي حينما يسافر إلى الديار الفرنسية يلزم نفسه بالكثير من قواعد البروتوكول وهو يجر وراءه هيبة الدولة والسلطان، فلا يتواضع لأي سلطة في تلك الديار حتى لو تعلّق الأمر بسلطة الحداثة نفسها.
* الرحلة السفارية وانهيار هيبة المغرب
لا يخفى أن الوضع في بلاد المغرب كان حتى معركة إيسلي 1844م، إلى حدّ ما طبيعيًّا. فالمغرب لا يزال يحتفظ بهيبته وطريقته في التعامل من الأقطار الأوروبية ظلت طريقة موسومة بالتعالي، والاستهتار، وربما كان هذا خطأ لم يكن يستحضر صيرورة الاستقواء الأوروبي لكن المعركة كانت منعطفاً كبيراً، نتج عنه إحساس دراماتيكي بالهزيمة. كانت 1848م هي السنة التي سيبدأ فيه المغرب استئناف حركة سفارية على خلفية مجموعة من التنازلات مكّنت فرنسا من السيطرة والتغلغل في المغرب بصورة ملفتة للنظر. وكانت إسبانيا أيضاً قد استغلت هذه الهزيمة لتستولي على الجزر الجعفرية. ما يؤكد أن هذه الهزيمة شكّلت اللحظة المفصلية لذهاب هيبة المغرب، وهو ما عبّر عنه الناصري صاحب «الاسقصا» بالقول: «ووقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب، واستطال النصاري بها، وانكسر المسلمون انكساراً لم يعهد لهم مثله، وكثرت الحمايات، ونشأ عن ذلك ضرر كبير، نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة».[12]
وللوقوف على عينات من تلك الرحلة، ومعرفة أذواق أصحابها وهواجسهم السياسية والثقافية والدينية، ما علينا إلاّ الإنصات لبعضهم من خلال النماذج التالية:
محمد ابن عثمان المكناسي
لعب هذا السفير المغربي دوراً أساسيًّا عبر رحلتين، إحداهما لإسبانيا والأخرى لمالطا ونابولي، بهدف مهمة محدّدة، ألا وهي التفاوض حول الأسرى. لذا لا غرابة أن نجد عنوان الرحلتين معاً يخصّان مهمة واحدة الأولى: الإكسير في فك الأسير. والثانية: البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر. كان الفارق الزمني بين الرحلتين عاماً واحداً. رجع من الأولى في 1780م وانطلق إلى الثانية في 1781م. وكانت مدة مكثه في الأولى والثانية سنة كاملة. يدل هذا على أن ابن عثمان نجح في مهمته الأولى حتى أصبح محل ثقة السلطان، وكدبلوماسي ماهر في تدبير ملف الأسرى. ولم يكن الملف المذكور محصوراً في حدود التفاوض على الأسرى المغاربة نظراً لاستقلالية المغرب حينئذ عن باقي الإمبراطورية العثمانية. بل كانت هذه المهمة تتعدى إلى التفاوض حول عموم الأسرى المسلمين في شتى البقاع الإسلامية لا سيما أولئك الذين أهملتهم السياسة التفاوضية التركية التي عادة ما كانت تستبدل الأسرى الأتراك بأسرى العدو ولا تشغل نفسها بالتفاوض من أجل الأسرى من غير الأتراك. لعب المغرب يومها دوراً أساسيًّا في عملية فك الأسرى، حتى أن بعضاً من هؤلاء الأسرى بعث رسائل إلى المغرب، وانطلق المغرب للتفاوض حولهم لاسيما وأنه انزعج من موقف الحاكم التركي في الجزائر الذي كان يفدي فقط الأسرى الأتراك ويترك باقي المسلمين. مع أن «بيده من أسرى النصارى ما يفدي بهم هؤلاء ويظل لديه مزيد» بتعبير المكناسي[13].
إن رحلة ابن عثمان، موسومة بالفخر والاعتزاز بقوة المغرب والإسلام وأيضاً الاندهاش بالآخر في حدود مدنيته إلى حد الإعجاب، وكذلك النفور من بعض طباعه إلى حد الهجاء. جاء عرضه للرحلة واضحاً وصريحاً حتى أنه لم يكن ليخفي موقفه من مباهجها أو مثالبها. ليس في وصف ابن عثمان انبهار فقط وليس فيه هجاء فقط. لكن يبدو فيه الكثير من عوامل الاعتزاز بالذات. فالذّات هنا هي المدار في كل ما يصفه رفضاً أو قبولاً. فالمقبول هو ما يفيد المغرب والمرفوض هو ما يضره من هذه المدنية. ليست أوروبا هي المعيار، بل المعيار هنا مجرد ومتعالٍ يقع في صلب تراثنا وديننا وتاريخنا. وعلى أساس هذا المعيار يتم القبول والرفض لمعالم المدنية الأوروبية. يتجلى الانبهار بالعمارة والتنظيم وما شابه إلى حد الإعجاب وأحياناً الدهشة التي يعبر عنها: «وأما ما بها من الخيرات، فحدث عن البحر ولا حرج: فالفواكه موجودة فيها في غير إبَّانها، حتى تجتمع فاكهة السنتين معاً»[14].
ليس الأمر اعتباطيًّا ولا محاولة لتركيز الانبهار على عوامل طبيعية لا يد للمهارة الإنسانية فيها، بل الأمر يتعلق بتطور فن الزراعة. لأن «لهذا الجنس خبرة كبيرة بالفلاحة وتربية الأشجار». إن مسألة الإعجاب بالمظاهر الأوروبية، تحدّث عنه باقي الرحالة المغاربة بشكل مدهش جدًّا. وهذا الإعجاب المعبر عنه يتكرر في محطات مختلفة إذ يقول:
- «وشاهدنا من العجب في تلك الدار ما لا يمكن وصفه من أنواع التصاوير والبناءات والحيوانات التي تخيّل للناظر كأنها قائمة بالذات، ومن آلات الطرب والرقص ما لا يكيّف».
- في وصفه دار الطاغية «خزانة كبيرة موضوع فيها الغرائب».
- في وصف غرس وحدائق إشبيلية القريبة من القصر «ففيها من العجائب ما يقصر عن وصفه اللسان».
- في وصف نابولي: «الحاصل، هذه المدينة من عجائب الدنيا، لا تنقضي عجائبها ولو أقام الإنسان سنين فيما لا يُحصي عجائبها ولا يستوفيها»...[15].
الهجاء لا يفارق الإعجاب
لا يتعلق الأمر بتفوّق في التجرّد الموضوعي عند وصف الآخر. مثل هذا نجد له فصولاً ومواضيع كثيرة عند الرحالة ابن عثمان. غير أن هذا التردد بين الإعجاب والهجاء مقصود وتربوي وأيضاً يعكس إرادة لاستنهاض الأنا من تحت ركام هذا الانحطاط الحضاري الذي أصابها. من هنا موقف الاعتزاز والنظرة الدونية والهجاء لبعض مظاهر هذه المدينة. لم يحجب الإعجاب تلك الصورة المقززة التي نقلها الرحالة ابن عثمان في كتابه، بل إنه ينظر إلى الآخر نظرة دونية وأيضاً يقف موقف نفور من بعض مظاهر تلك المدينة. وتظهر هذه النظرة الاستعلائية عند ابن عثمان كلما تعلق الأمر بالموقف الديني من السلوك المدني الأوروبي. إنها نظرة تقليدية للفقيه المسلم من عموم الكفار. ولهذا كلّما تحدث الرحالة عن بلدة من هذه البلدان أردفها بالقول تحسراً: «أعادها الله أرض السلام». بل حتى لمّا كان يذكر ملك تلك البلاد، لا يسميه باسمه. على الأقل كما تفرض أعراف اللّياقة الدبلوماسية الحديثة. بل كان يسميه بالطاغية حتى لو أقر له ببعض المكارم. ومثل ذلك تحسره على كل الآثار الإسلامية في أوروبا. يذكر مثلاً ما حدث لبعض المنشآت الإسلامية هناك: «إلا أن الكفار الساكنين بالصومعة المذكورة قد أفسدوا داخلها بالبول والقذرات حتى لا يمكن للإنسان أن يطلع إليها إلا ممسكا أنفه من شدة النتن. طهر الله منهم البلاد وجعلهم فيئاً وغنيمة للعباد»[16].
الآخر والموقف من ثقافته ودينه
يتناول ابن عثمان وضع الراهبات ومسألة العزلة والانقطاع عن الزواج وما شابه بالكثير من النقد والهجاء. وهو هنا يعكس موقف قيمي وديني وثقافي لا يختلف عن الجمهور المغربي حينئذ. وقد لا يكلف نفسه نقد الظاهرة بتأملات نظرية، بل يحاكمها ويسلّط عليها أكثر أشكال الهجاء، ببساطة تؤكد أن الرحالة هنا مسكون بشيء واحد، ألا وهو مواقع قوة الآخر. تلك القوة التي لا يجب أن نقرأها في كل مظاهر عمرانه، بل إن لها تجليات في مجالات ومهارات وأذواق خاصة دون ما نراه في عوارضها ذات الصلة بخصوص عوائده الثقافية والدينية. فبقدر ما تمارس تلك المظاهر من حالة تسلط على ذهنية الرحالة بمقدار ما يسلّط انتقاده اللاذع وتفوّقه الديني والقيمي على هذه المدنية. يقول منتقداً أوضاع الرهبنة: «وشأن هؤلاء الراهبات في عزلتهن مناكر معتكفات عليهن، قد جالوا من المساحقة في مجال مع إبليس حيثما جال، واستغنوا بذلك عن الرجال». أما البابا، نظراً لكونه يحل لهم الحرام ويحرم عليهم الحلال فإنه «فإذا مات البابا كبكب في الجحيم وتجرع الحميم»[17].
إن مظاهر الفسوق والانحراف مظاهر بادية استوقفت الرحالة السفير ابن عثمان. لكن ملاحظته كما هو شأن الكثير من الرحالة المغاربة كانت قاسية. أقسى من موقف الطهطاوي الذي حاول أن يتفهم بعضاً من هذا السلوك، ويعدّله بسلوك أحسن. فإن ابن عثمان يقف عند الغيرة ولا يميز ولا يجزّئ كما فعل الطهطاوي؛ بل عبّر عن موقفه بصراحة: «فتجد الرجل جالساً وامرأته أو بنته ترقص مع أجنبي ويناجي بعضهم بعضاً خفاءً، ولا حياء؛ وكلام الناظرين يذهب جفاء ولا يبالي أحد بذلك، مع ما هو معلوم فيهم وشائع في بلادهم من الفسق والزنا، ويعرف ذلك بعضهم في بعض، ومع ذلك فلا يبالون بشيء: فقد جبلوا على عدم الغيرة قبحهم الله وطهر البلاد منهم»[18].
هناك ما يلفت في سلوك الرحالة المغربي، لا سيما المنتمي إلى سلك البعثة الدبلوماسية أي السياسي ألا وهي النظرة الاستنكارية والاستعلائية. لا يزال الرحالة المغربي مائلاً إلى نمط الرحلة عند بن بطوطة حتى بعد إدراكه نمط الرحلة الطهطاوية. فالاستعلائية حاضرة هنا حتى في ذكر ملكهم وحاكمهم. فهو لا يسميه إلا «الطاغية» كما ذكرنا:
- «وقد بالغ هذا الطاغية في إكرامنا وتعظيمنا».
- «لعلمهم أنه يستجلبون بذلك إليهم خاطر طاغيتهم».
- «فقدّم إلينا الكدش الذي بعث الطاغية لركوبنا».
- «عادة الطاغية فيمن يرد عليه من وفود الملوك أن يضيفه ثلاثة أيام ونحن من شدة أعنائه بسيدنا ومولانا أمير المؤمنين أكرم مثوانا وأحسن ضيافتنا اثني عشر يوماً التي قبل الملاقاة»[19].
- «إن رؤساء مالطة شرذمة من بني ملاقطة مجتمعون.. الذين لهم في إذاية المسلمين تحديق..»[20]
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار
يجب أن نذكّر بأن رحلة ابن عثمان هي نموذج لرحلة مبكرة ساد فيها الاعتزاز بالقوة والمجد.. النظرة الاستعلائية لم تزل قائمة. ولم يكن الأمر يتعلق برحلة في مناخ الهزيمة كالتي حصلت عند هزيمة إسلي. لكن الوضع سيختلف عندما يتعلق الأمر برحلات لاحقة. فمع رحلة محمد الصفار أو العمراوي أو من جاء بعدهما نجد ملامح الإحساس بالفارق، والحسرة الشديدة على تفوق الفرنجة على العالم الإسلامي عموماً والمغرب خصوصاً. وكما ذكرنا، كان لهزيمة معركة إسلي تأثير كبير فيما بعدها من سنوات. ورحلة محمد الصفار الأخيرة حدثت بعد الهزيمة بسنة واحدة فقط، أي سنة 1845م، حيث حصلت الهزيمة سنة 1844م. بالتأكيد لن تقف على الإحساس نفسه ومصدر القوة نفسها. حتى مع كونها رحلة سفارية شأنها شأن رحلة ابن عثمان مثلاً. وحتى حينما يطَّلع رحّالة مغربي على رحلة رفاعة الطهطاوي، فإنه بعد إيسلي سيستوعب مضامينها النهضوية أكثر مما حصل قبل ذلك. إذن لا شك في أن للظرفية والشرط الموضوعي مدخلية في وتيرة الوعي بهذا الفارق الحضاري وبالمهام المطلوب إنجازها على صعيد النهضة.
كان سبب رحلة الصفار إلى الديار الفرنسية قراراً من السلطان عبد الرحمن. وكان قد تقرّر بعث عبد القادر أشعاش عامله على تطوان للرحلة إلى فرنسا. وحينئذ طلب منه اختيار «عالم يقيم أمر الدين من صلاة وقراءة»[21]. إنها نفسها وضعية رفاعة الطهطاوي إلى حدّ ما. إلا أن رحلة الصفار جاءت في سياق وفد دبلوماسي. وقد تميّز الصفار بالنباهة والذكاء والبحث. حتى كتب عنه بوميي Peaumier إلى دوشاستو De Chasteau يقول: «إن الفقيه.. مشغول طوال الوقت. إن لديه موهبة عقلية نادر، وهو بصدد إنجاز بحث حقيقي، فقد كتب أشياء كثيرة»[22].
في رحلة الصفار نجد تشابهاً وتقارباً بينها وبين رحلة رفاعة الطهطاوي. من ناحية أولى، نجد أنها على الرغم من أنها تدخل في جنس الرحلة السفارية، إلا أن وظيفة الصفار كانت هي نفسها وظيفة الطهطاوي في البعثة، كما مرّ معنا. أي وظيفة مرافق أو مرشد ديني في البعثة. وكان الصفار مثله مثل الطهطاوي (عالم دين)، ذاك من الأزهر وهذا من القرويين. وقطعاً يبدو أن الصفار اطَّلع على تخليص الإبريز في تلخيص باريس لرفاعة الطهطاوي، لأن ثمة عبارات وأوصافاً متقاربة جدًّا بينهما. وأحياناً نلمس تأثيراً في الأسلوب يصل إلى حدّ النقل الحرفي، كقوله مثلاً عن باريس: «اعلم أن هذه المدينة هي قاعدة بلاد الفرنسيس وأم حواضرهم وكرسي مملكتهم ومسكن عظمائهم..»[23]. أو كقوله في وصف التياتروا: «ويزعمون أن في ذلك تأديباً للنفوس وتهذيباً للأخلاق وراحة للقلب والبدن..» [24]. أو كحديثه عن القوانين التي سنها لويس الثامن عشر بخصوص حرية التعبير والنشر في الكازيطات[25].. أو وصفه أهل باريس بذكاء العقل وحدة الذهن ودقة النظر[26]. أو وقوفه عند استقباحهم للتشبيب والغزل بغير النساء[27]. وغيرها من الأوصاف التي رأيناها عند الطهطاوي وهي هنا عند الصفار حاضرة حرفيًّا. هنا يمكننا القول: إن رحلة الطهطاوي شكّلت خريطة طريق للمحاولة الوصفية للصفار وبعض الرحّالة المغاربة من بعده بتفاوت ملحوظ. وفضلاً عن ذلك يعد كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، مخصصاً لوصف باريز. في حين أن الصفار خصّص من كتابه فصلاً كاملاً (الفصل الثالث) في ذكر مدينة باريز، وهو الفصل الأكبر من بين 6 فصول أخرى.
جاءت الرحلتان معاً في ظروف الاحتلال والهزيمة والإحساس بالتحسر إزاء مظاهر التفوق والغلب الحضاري الأوروبي. فحينما يصف الصفار جغرافيًّا المعمور من الأرض ويصل إلى ذكر الجزائر يقول: «ثم وهران والجزائر وسائر ما كان من عمالتها، وهي الآن بيد الفرنسيس»[28]. وحينما يصف إحدى الاستعراضات العسكرية:
«ومضوا وتركوا قلوبنا تشتعل ناراً، لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن ترتبيهم ووضعهم كل شيء في محلة، مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله. فما أحزمهم وما أشد استعدادهم، وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم، وما أقدرهم على الحروب ما أقواهم على عدوهم، لا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين، إنما ذلك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب واتِّباع قوانينهم التي هي عندهم لا تنخرم»[29].
إن الصفار هنا يستحضر ضعف الجيش المغربي في هزيمة «إسلي» حيث سنجد كثيرين يعزون ضعف الجيش إزاء الفرنسيس بل حتى في مواجهة الثورات الداخلية، راجع إلى هشاشة البنية التحتية والقوانين التي لا تُرغِّب الجيش في القتال وبتعبير آخر إلى الفساد.. لذلك نجد الصفار يصف الجيش الفرنسي ويقف على سر قوّته وبذله المهجة نظراً لما يحيط به من حسن تدبير هذا القطاع الحساس والحيوي إداريًّا وقانونيًّا وتربويًّا: «إن صدرت من واحد منهم زلة أجروا عليه شريعتها، سواء كان رفيعاً أو وضيعاً، وإن ظهرت لأحد منهم مزية أرقوا درجتها، لا يطمع أحد منهم في غير ما هو له، ولا يخاف على ما في يده أن ينزع منه، فعلى ذلك يبذلون مهجهم في المعارك، ويلقون بأنفسهم في المهالك، ولو رأيت سيرتهم وقوانينهم لتعجبت منها غاية العجب، مع كفرهم وانمحاء نور الإيمان من قلوبهم، وما راءٍ كمن سمع... إلخ. الله أعد للإسلام عزته وجدّد للدين نصرته بجاه النبي صلى الله عليه وسلم» [30].
لم تترك رحلة الصفار شيئاً من معالم المدينة إلا وصفته وصفاً دقيقاً. لكن يظل هناك فارق، هو أن الصفار لم يطَّلع على التراث الفلسفي والأدبي الفرنسي بالشكل الذي رأيناه مع الطهطاوي. لعل السبب هو أن الرحلة سفارية فيها الكثير من الانشغال والالتزام، وأيضاً لأنها لم تدم أكثر من سنة واحدة. نجد مع رحلة الصفار انضباطاً وأيضاً وصفاً موضوعيًّا يقترب من طريقة الطهطاوي وهذه المرة لا يكون مع الطاغية بل يتحدث لغة دبلوماسية أهدأ من تلك التي وجدناها عند السفير ابن عثمان. فهو يصفه بـ: «عظيم جنس الفرنسيس». يقصد بذلك الملك لويس فليب (1830 - 1848) وعادة ما يكنّيه بالسلطان. وهو تعبير مخزني. وصف الصفار على الطريقة نفسها باريس، وأحياناً يعيد ذكر المعلومات نفسها؛ عدد السكان الذي بلغ حينئذ المليون الواحد، العمارة الحسنة وحسن التدبير والنظام.. كما يشير إلى خلو البلاد من السكن العشوائي: «واعلم أن هؤلاء القوم ليس عندهم في مساكنهم أخصاص ولا خيم ولا نوايل وإنما يعرفون بالبناء لا غير»[31].
كما يذكر ما لهم من صفات الجدية في العمل والإتقان والتعمير.. فلا وجود لأرض غير مغروسة ولا يوجد عندهم خراب أو أرض موات «حتى أن الأرض التي ترابها رديء ينقلون لها التراب الجيد من أرض أخرى». فالغراسة فن شائع هناك. وعملية الغرس في كل مكان حتى في حافات الأنهار ومجاري الخنادق بالمعالجة والعناية... وثمة قوانين لتنظيم الزراعة وأيضاً لحفظ حقوق الفلاحيين.. ويذكر من عجائبهم أنهم كانوا يُحلّون ماء البحر حتى يصير عذباً شروباً.
ويحضر السؤال الديني في متون الرحلة حضوراً معياريًّا مكثفاً، يؤكد أن سؤال النهضة في المتن الرحلوي يفرض جملة من الأسئلة التي تستدعي الخطاب الديني. إننا في لحظات تاريخية مثّل فيها الخطاب الديني المصدر الأكثر أهمية لمنظومة القيم الجماعية وعلاقات السلطة. فالرجوع إليه بين الفينة والأخرى، يشكّل ضرورة وظيفية كما يعكس بنية اجتماعية وسياسية وثقافية معيشة. وفي مثال رحلة الصفار نجد حضوراً يماثل حضوره في رحلة الطهطاوي ويعكس الهاجس ذاته، مع شيء من التموقف العقدي والديني، يتجاوز مستوى التعارض الديني التحديثي إلى مستوى التعارض الديني الديني. يتحدث عن الدين، ويتحدث عن الصليب العظيم المنصوب وصورة الشخص المصلوب التي أفزعتهم، لزعمهم أنه المسيح، وهو يؤكد أنه معبودهم، الذي ينزل عيسى ليكسره تكذيباً لهم وإبطالاً لدين النصرانية، ويعبر عن موقفه الصارم من هذا الاعتقاد قائلاً: «وما زادتنا رؤية ذلك إلا تبصّراً بكفرهم واطِّلاعاً على إبطال معتقدهم وسخافة عقولهم، فالحمد لله الذي هدانا للملة الحنيفية»[32].
كما يحضر الهاجس الثقافي حضوراً تعكسه لحظات الوصف التي تعكس أذواق ورغائب الرحّالة نفسه. وعلى طريقة الطهطاوي يصف الصفار مظاهر باريس الثقافية، ويستوقفه التياتروا، فيظهر له أن ذلك ليس مجمعاً للحرافيش والأوباش، بل يحضرها الأكابر وأهل المروءة. وذلك يحدث راحة في القلب والبدن يعينه على العمل مجدداً. كما يتحدث عن الإعلام وأنه سبب اطِّلاعهم على الأخبار، حيث ربما يكون ما فيه كذباً أكثر مما هو صدق، ولكنها تتضمن أخباراً تتشوف النفس للعلم بها ولها عندهم فوائد، كالاطلاع على الحوادث والأخبار[33]. الثقافة إذن ليست ترفاً بل مطلوبة للترويح على النفس لاستئناف العمل. فأهمية العمل قصوى في تلك الديار. ما جعل العمران الباريسي والأوروبي عموماً غاية في الترقي والتقدم. هنا يتحدّث الصفار عن العمل وانعدام البطالة وتنظيم الوقت ومشاركة المرأة في العمل وتحديداً في التجارة. ويبرز الصفار الجوانب الأكثر إيجابية في ثقافتهم وسلوكهم وطباعهم وتقاليدهم. وعموماً ليس هناك شيء زائد عما ذكره الطهطاوي. فعوائدهم تميل للمرح والخفة والمروءة (الدنيوية) وأيضاً الآداب والتخلّق في الحديث والاحترام والتسامح «ولا يتعرضون للغريب من دينهم أو من المسلمين بسوء ولا ينادي عليه صبيانهم ولا يؤذونهم كما يسمع على غيرهم من بعض أجناس النصارى»... وهذه العوائد يتعلمونها ويقرؤونها ويدونونها في الكتب لتكون لهم بذلك المزيد على غيرهم. وقد اختصوا من بين أجناس سائر النصارى بالأدب والحضارة والمروءة الدنيوية[34].
إن رحلة الصفار هي صورة أخرى تعزز رحلة الطهطاوي وتؤكد نتائجها. فتجد أن الصفار في مواضع مختلفة يرى أن كل مظاهر المدنية الباريسية ليست غريبة عن الإسلام. بل إنه بطريق غير مباشرة يسعى لذكر نظائرها في ثقافتنا، عبر أمثلة شعرية، كأنه بصدد منحها تأصيلاً إسلاميًّا. فتجده في وصف التياتروا مثلاً وما فيه من المرح والنكتة والمزاح ما يريح القلب والبدن، الضروري لاستئناف الشغل والنشاط، يقول:
أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلّله بشيء من المزح[35]
ثم يعطي من «السنة» قصصاً عن ضحك الصحابة ومزحهم ويعطي أمثلة عن بعضهم وما عُرفوا به. كما يعلّق بعد ذكر أمر الكازيطات والإعلام، أن بعضهم ينشر رأيه في الإعلام ليروا إن كان سداداً فيتّبعونه حتى وإن كان صاحبه حقيراً، فيقول:
لا تحقرن الرأي وهو موافـق وجه الصواب إذا أتى من ناقص
فالـدر وهو أجل شيء يُقتنى ما حـطَّ قيمته هو أن الغائص
وعن شغفهم بالعمل وذمهم الفقر يعلق:
ذريـني للغـنى أسـعى فإني رأيت النـاس شـرهم الفقـير
وأحقرهم وأهـونهم عليـه وإن كان لـه نسـب وخـير
وعن ذوق نسائهم في لبس السواد ومواتاته لهن أكثر من غيره من الألوان، بأبيات وأيضاً بقصة وقول الدرامي:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا أردت بزاهد متعبد
هكذا دواليك، أراد الصفار من خلال هذه التعقيبات والتعليقات إثبات نوع من التأصيل لهذه العادات والأعراف بما يؤكد فكرة التعارف. وليؤكد أننا أولى بها وأن وجودها مهم في قيام النهضة والحضارة. وهي خطة كل رواد النهضة ورموز الإصلاح، غالباً ما يسعون لتدريب العقل المحلي على القبول بثقافة الآخر حينما تكون محل شراكة واتفاق حتى لا تحول هواجس الخواف من الآخر دون الأخذ بأسباب الرقي الاجتماعي والأخلاقي. لقد رام هذا الجيل أن يخفف من غلواء هذا الخواف عكس ما حصل في زمن الانتكاس حينما أصبح المطلوب تعميق العزلة الشعورية وتصعيد الخلاف إلى أقصاه كما لو لم يكن في نهضتهم ما يصلح لنهضتنا. لم يبرح الصفار في رحلته أسلوب الطهطاوي في الوصف والتعليق. وتتجلّى قيمة ما قدمه في تعزيز وتزكية وتأكيد المضمون التربوي الذي انتهجه صاحب تخليص الإبريز في تلخيص باريز.
الرحّالة محمد عبد السلام السائح (1922) م
هناك نموذج آخر لرحّالة مغربي سفاري، هو محمد بن عبد السلام السائح. ابتعثه السلطان يوسف بن الحسن برفقه محمد الهواري قاضي الثغر الطنجي سابقاً لحضور تشييد الجمهورية الفرنساوية للمعهد الإسلامي بباريز تذكاراً لمشاركة المسلمين الإفريقيين لها في الحرب الكبرى (فبراير 1922).
مثال آخر عن موقف موسوم بالاستعلاء والاعتزاز بالنفس والاحتفاء بالهوية. فالوصف وإن عبّر عن بعض من الإعجاب والدهشة، إلا أنه استقبح الكثير من الثقافة الأوروبية تماماً كما فعل السفير ابن عثمان أو الصفار وغيرهما. فالإعجاب يبلغ مداه إلى حد يبعث على نظم الشعر وصفاً لهذه الديار. وقد طاف وجال واطَّلع على كل رحّالة ذهب إلى تلك الديار. مع محمد عبد السلام تجوب الشوارع وتشاهد العمارة وتستمتع بالحدائق وتزور المتاحف وتركب التياتروا. فهو يصف ما رأى. لكنه يحسن وصفه ويزيدك بعضاً من الخيال. لقد غرق في وصف بعض من تلك الملاهي حتى قال: «ولهم نشيد ورنين، وللموسقيين تطريب وتلحين إلى مطارحة ذكران ونسوان، وأزيا ما أنزل الله بها من سلطان، حتى خُيِّل لي أني في عرس بلقيس في عالم الأباليس. مما كان أجرى المقام بقول أبي الطيب:
ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان[36]
الأدب الساخر في الإنشاء الرحلوي لابن عبد السلام يضفي الكثير من الملاحة على الوصف. والإعجاب يأخذ هنا حقه كما يأخذ الهجاء حقه أيضاً. إنه الرّحالة الذي طاف هذه الأماكن بزيّه المغربي التقليدي المثير للغرابة عند الفرنسيين. لا سيما وقد كان يجول جولات خاصة خارج الترتيبات التي يقتضيها البروتوكول. وكثيراً ما سعى هو نفسه لافتراض انطباعات الآخر من لباسه وذوقه وتقبل دهشتهم بالكثير من روح النكتة والدعابة. فاللباس المغربي وإن أصبح مألوفاً عند البارسيين إلاّ أنه في بوردو ليس كذلك. لذا ما فتئ يحدّق فيه الجميع تعجّباً بالغريب، معجبين بشكل الرحالة ويغالبهم الضحك؛ في حين «أنا أعجب من حسنهن ورقتهن وتثنيهن:
كـلانا ناظـر عجباً ولكـن عجبت بحسنها وتفت بشكلي[37]
إن محمد بن عبد السلام السائح له نصيب من المرح والنكتة والسخرية، لكنه يبدي أيضاً موقفاً صارماً تجاه الكثير من مظاهر الفساد والانحلال ويحكم الوازع الديني بصورة صارمة، فلا تنقصه الموضوعية في الوصف عندما يتعلق الأمر بأمر مهم. فهو يعترف بحبهم للعلم وصبرهم وجلدهم على اقتنائه، «وقد تجسمت في مخترعاتهم ومصنوعاتهم علومهم الغزيرة المتنوعة تجسماً بادياً للعيان»[38].
ويستحضر المقارنة، وعينه على المغرب وهو يقول:
«إن المغرب اليوم غيره بالأمس، وإن ما يرسم في برنامج مستقبله لمومئ إلى مرامٍ بعيدة، وإن ما نشاهد به من امتزاج العناصر لأمارة على نفخ روح جديدة وإن النظر في العواقب ثمرة العقل، وإنه يمثل أمام عيني مستقبل ليست الحياة فيه بالتفوقات ولا بالأماني التي هي أحلام المستيقظ، وإنما هي نتيجة واحدة قد اندرجت فيها كل المحدقات، وبمقصد واحد انطوت فيه كل الوسائل ألا وهو العلم»[39].
من هنا تبلورت الحاجة إلى بذل الوسع في طلب العلم بحب وتعليم الأبناء. لأن به يتعزز جانبهم ويحفظون كيانهم ودينهم ولغتهم وشرفهم وأخلاقهم وأحوالهم: «العلم يحرس الدين والدين هو جامعة الأمة وحياتها». كما أن العلم هو السبب في الرقي ومتى أُهمل كان ذلك سبباً كافياً للانحطاط. ومن هنا «إذا رأيت من أمة تقصيراً في سبيله فأنذر بانقراضها، أو تساهلاً في العمل بمقتضاه فهيئ في بطن التاريخ زاوية لانقضاضها (...) وكل سلطة دونه ضعيفة النفوذ..»[40].
ومما يبدو عياناً من حديث الرحالة أنه أدرك سر تفوق أوروبا على المسلمين بالعلم، وليس إلا العلم. لذا نجده يقف موقفاً جديًّا لا هزليًّا وهو يصف كل مظاهر العمران التي كان سببها تقدم العلم وازدهاره. غير أنه لا يعير أهمية فائقة لأشكال الثقافة الأخرى التي يصفها كما يصف أحوال الطبيعة. فيمدح تارة في الوصف ويمزح ويهجو تارة أخرى ويكثر من النكات ولا يبالي. وأحياناً يستقبح ويزدري ويسخر، ما يعني أنه يميز بين ما هو ضروري للنهوض وما هو من العوائد التي لا يضر فوتها. كما أنه لا يشعر مع وجود الفارق في المدنية، بأي نوع من الهزيمة النفسية. إنه يدرك بخلاف غيره أن ما ينقص (المغاربة) الذين اتهموا بالجهل من قبل المستعمر الذي وجدها مطية للاستعمار، أو من قبل بعض المصلحين، يرى أن المغاربة -وهو يعني باقي المسلمين أيضاً- لهم كفاية من العلم والعلوم ولا ينقصهم إلا العناية بعلوم العصر. وهذا تطلّب ممكن إحرازه بالإرادة والتغلّب على عوائق التّرقي. وقد حرّض ابن عبد السلام السائح المغاربة على النهوض واكتساب العلم دون اندهاش من الفارق الكبير بيننا وبينهم. يقول: «أفلا يجعلون لأنفسهم سهماً منها، فنصبح وقد شاركنا أمم الأرض في علومهم وفضلناهم بمعلوماتنا الأخرى، ونكون قد نفينا هذه الوصمة عن جانبنا وجلونا عن هذا البهق غرة محاسننا؛ لا تقل: إن الأمر يحتاج ويحتاج، لأن له طرقاً تفضي إليه وأسباباً تدني منه. ورأيي أن كل ما كانت له وسائل، فهو سهل التناول»[41].
نشدان النهضة في نظر السائح ليس له شرط سوى إرادة النهوض. فليس من مائز يميزنا عن باقي الأمم. بل من شأننا أن نتقدم على غيرنا ونخرج من هذا المأزق الحضاري. ولذا ما فتئ يذكّر بمحامد تاريخ المسلمين العلمي، والتذكير بمجد القرويين التي كانت في القرن التاسع بمثابة الكلية الوحيدة لتلقي العلوم السامية. حتى كان الطلبة يتقاطرون إليها من أنحاء أوروبا وإنكلترا فضلاً عن بلاد العرب[42].
ندرك من خلال ذلك أن للسائح وعياً عميقاً خالصاً من شوائب الشعور بالهزيمة. بل إنك تراه يصف دون أن يعتريه شك في أن ما في يد أوروبا هو سهل المنال لو تحققت الإرادة. وبأن المسلمين لا ينقصهم إلا العلم. بل ولا يعير أهمية لثقافتهم لاسيما عندما يتعلق الأمر بمظاهر السلوك. فهو يقدّره لكنه لا يراه ضروريًّا. بل وأحياناً يسخر منه أيما سخرية. ويكفي مثالاً على ذلك القصة والتعليق الذي ذكرهما رحالتنا، ولنقارنهما بنظرته للعلم وترقب المستقبل؛ يقول:
«وفي أثناء تجولي، مررت بكنيسة فأغراني حب الوقوف على الآثار بالدخول إليها والتجول فيها لولا أنه كدر صفوي بها شخص من جملة الواردين مصفر اللون قد تقبض جلده وتقنسر كأنه جسم مصبر. قال لي: لا بد أن تنزع العمامة عن رأسك إعظاماً وإجلالاً كما ترى الناس ينزعون قبعاتهم. فأبيت ذلك فكرر وأكثر من الطنطنة بتلك الرطانة. فقلت له ليس العمامة كالقبعة التي يمكن نزعها بكل سهولة وبدون أدنى آفة تلحقها. وكيف الحال إذا اختل نظامها واختلطت أطرافها وانسلت قلنسوتها؟ ومن لنا في هذه الديار بحجام حاذق ينسقها ويرجعها بقلبه وأين هو؟ ومن لنا به؟! وأنا قد تنكبت الدخول هنا إلى الحلاق مع حاجتي إلى الحلاق، خشية أن تطغى حديدته على الأذقان فنصبح كالمردان. ونصير محل الإعجاب عند الرجوع والإياب، ثم قلت لرفيقي: ما لنا والدخول إلى هذه الكنائس التي لا تحترم فيها العمائم والقلانس ويجحد فيها تعب الحجام؟ فإلى الأمام، إلى الأمام»[43].
ثم يردف قوله بملاحظة يبدي فيها حجم الفارق الثقافي بين العالمين، ويظهر تفهماً كبيراً للاختلاف. وهو ما يؤكد أن السائح كان ساخراً من الفوارق الثقافية لكنه على إدراك بأسبابها ومتفهماً لمضامينها. فيعود ويؤشر إلى ما يقرّب الآخر إلى الأفهام ويعرض ما اختلف من ثقافته على قاعدة التعارف، فيقول:
«يعتبر الإفرنج رفع القبعة عن الرأس من مظاهر التعظيم بخلاف أعرافنا: فإن نزع العمامة بمحضر الملأ ربما عُدَّ من خوارم المروءة، ونزعها عن رأس الغير ضرب من الإهانة. وبنى الفقهاء على هذا العرف -الذي يعد تحكيمه في جملة أصول الفقه- أن نزع العمامة من أنواع التأديب والتعزير. يقول أبو الضياء خليل في «مختصره» الجليل:
وعزوة الإمام لمعصية الله والحق أدهى حبساً ولوماً وبالإقامة ونزع العمامة وضرب بسوط أو غيره»[44].
مع محمد الحجوي الثعالبي في رحلته الأوروبية
تعتبر رحلة الحجوي إلى باريس من نوع الرحلة السفارية. فقد رحل برفقه الوزير الأكبر وتسعة أعضاء آخرين منهم الحجوي بوصفه نائباً عن فاس عاصمة العلم وعن المغرب الشرقي لحضور عيدي الجمهورية الفرنسية وصلح النصر. وتحيل رحلة الحجوي إلى البلاد الأوروبية على نموذج قريب من تجربة الطهطاوي في عمق الإحساس بسؤال النهضة وأولويته إزاء سؤال الهوية. وهي تجربة تتميّز بنباهة صاحبها حيث جمع بين الوظيفة السياسية والبحث العلمي والنشاط التجاري. إنها تجربة فاعل سياسي إصلاحي، لم يقف عطاؤه عند سرد أحوال الرحلة، بل لا يزال يقدم من المشاريع الإصلاحية ما طال بالاهتمام والمعالجة كافة القطاعات. وعلى الرغم من أن باريس كانت هي إحدى أهم مدائن الإفرنج التي تعرّض لها رحّالتنا بالوصف الدقيق وأظهر فيها من الإعجاب الكثير، إلا أنها لم تكن هي أفق الرحلة الحجوية الوحيد. لقد أضاف إليها أفقاً آخر هو مدينة لندن. لم تنحصر مقارنته بين المدنية الأوروبية والمغرب، بل قام بنوع آخر من المقارنة الدقيقة بين باريس ولندن. وهو ما لم نلحظه عند الطهطاوي الذي ارتقت باريس عنده إلى رئيس كرسي بلاد الفرنجة. مع الحجوي هناك ما يميز باريس عن باقي البلاد الأوروبية. لكن هناك في لندن ما تميّزت به هذه المدنية عن باريس نفسها. إن رحلة هذا الأخير الموسومة بـ(الرحلة الأوروبية) تنقسم إلى قسمين: رحلة سفارية، دبلوماسية إلى فرنسا أعقبتها رحلة حرة بقصد السياحة والتجارة إلى لندن. و «الرحلة الأوروبية» ليس كتاب الرحلة الوحيد عند الحجوي، وإن كان هو الأهم، بل للحجوي كتب وصف فيها بلداناً كان قد سافر إليها من قبل، كالجزائر وتونس والأندلس والحجاز. فلا زالت مكتبته تتضمن كتباً رحلوية نظير: مسامرة الزائر برحلة الجزائر (ذكرها عبد السلام بن سودة في دليل مؤرخ المغرب الأقصى)، وحديث الأنس عن تونس (ذُكر في المرجع نفسه)، والرحلة الأندلسية الفيشية والرحلة الحجازية المصرية. بالجملة إنها -حسب عبدالله سعف وألان روسيون مترجما الرحلة- أول رحلة مغربية قدّمت باللغة العربية صورة إيجابية في مجملها عن فرنسا. وطبعاً يضاف إليها رحلة الصفار. ومما زاد رحلة الحجوي قوّة أنه قبل أن يكتب رحلاته كان قد اطَّلع على رحلات سابقة واهتم بها. كما لخّص بعضها الآخر. كذلك فعل مع رحلة ابن عثمان المكناسي من خلال كتابه «أنس السائر في اختصار البدر السافر». ويعتقد الحجوي أن هذه الرحلة كان بإمكانها أن تفيد الملوك والكبراء لو أنها كتبت بأدب سهل. بل «ولحصلت بسببها نهضة مغربية تكون سبباً في إخراج المغرب من بحر ظلماته إلى نهار المدينة». فالرحلة إذن ليست أدباً للتسلية بل هي رسالة للنهضة والإصلاح. كذلك فهمها الحجوي، ولهذا السبب تحديداً طوّر الكتابة الرحلوية لتخدم هذا الغرض وتتكيف مع النشاط الإصلاحي. فسعى إلى خط رحلته بهدف تقديم وصف يساعد على التمدين وإحداث النهضة. ولهذا الغرض أيضاً، حاول قدر الوسع تجنّب الإنشاء الصعب في الوصف وتيسير العبارة لتحصل الفائدة. كما تجنب القسوة في وصف المظاهر السلبية في أوروبا والتركيز على الفوارق المدنية. لأن المقصود من وصف الرحلة ليس التسلية والاستئناس، بقدر ما هو تحريض المغرب على سلوك طريق المدنية. ولهذا السبب نجده يتحدث بقسوة عن ظلمات المغرب وعن الانحطاط وكل ذلك، لأنه كان يريد الإصلاح ويحمل همه بلا هوادة. ذلك لأن المصلح لا يجامل الفساد ولا يهادن التخلف. فقد تراجع معه سؤال الأنا والهوية وبرز بشكل كبير سؤال النهضة والترقي. فعبّر عن مقصوده من الرحلة التي وافقت 1919م بأمر من الملك يوسف حينما قال: «ورأيت أن أقيد ما شهدت في رحلتي هذه، لإفادة أهل المغرب الذين لم يرحلوا ولم يعرفوا شيئاً من أحوال أوروبا»[45].
لم يكن الحجوي يتكلم الفرنسية. كما أنه لم يتيسر له -كما هو حال الطهطاوي- تعلمها هناك. لكنه رأى أن رحلته استطاعت أن تقدم ما هو مفيد، «لا سيما لعلمائنا الذين لو يرحلون لتلك الديار ويتصورونها بصورة لا تنطبق على الحقيقة عند الاختبار»[46].
ونلاحظ أن الدهشة والإدهاش أحياناً يكونان استراتيجيتين مقصودتين في أدب الرحلة. لذا لم تخل رحلة الحجوي من التعبير بلسان العجائبي والغرائبي. لكنه أيضاً كمصلح واقعي جدًّا، كان يعيد المتلقي إلى الواقع، ويتدارك الدهشة بأسلوب التحليل والتعليل. ولتبرئة ذهنه من دخيل الإعجاب المخل بموضوعية الوصف، أوضح حال معاينته وصدق مدعاه فيما وصف من أحوال العمران الباريزي قائلاً: «ولا تظن أنها (أي مناظر البر الجميلة بعد اجتياز البحر) ظهرت لنا جميلة في أعيننا إذ ذاك لشوقنا للبر وأنها ليست جميلة في الواقع، بل أحقق لك أن ميد البحر ذهب عني وصفا ذهني وفكري فيمكنك أن تعتمد على قولي هذه المرة. فأحقق ذلك أن الشاطئ الذي نراه هو شاطئ جميل للغاية، بل لا يكاد يوجد أجمل منه».
إذن، نحن أمام رحّالة يتكلف جهداً مضاعفاً لإثارة الإعجاب لدى المتلقي. على الرغم من أن لغة التعجب والدهشة لم تفارق الرحلة الحجوية، مادامت الدهشة مقصودة في فن الرحلة، لكنه لا ينسى واقعيته. فهو يعود ليقول، وهذا ما يدل على نباهته وعقلانيته: «وإن عجائب أوروبا كثيرة، وهي في الحقيقة ليست عجائب أوروبا بل عجائب العالم وغرائب اخترعات عقل البشر النبيه المتيقظ. ولولا أن التزمت ألَّا أخبر إلا بما رأيت لقصصت عليكم من عجائب أوروبا أو العالم، وخصوصاً في لندن وباريس اللذين هما ينبوع الحكمة الأوروبية»[47].
الحسرة والمقارنة
مثل سائر الرحالة، كانت الحسرة ماثلة في تجربة الحجوي. وتكاد تلازم تعليقه على كل ما كان موضع دهشة من رقي الفرنجة. ودائماً، بالتصريح أو التضمين، يؤكد أن المسلمين هم أولى بهذه المدنية من غيرهم. وتحصيل ذلك يرقي إلى الواجب. وأحياناً يظهر ذلك من خلال عقد مقارنة بين حال المدنية الفرنجية وحال المغرب وعموم بلاد المسلمين. الحسرة عند الحجوي ليست أمراً عابراً، ولا مسألة اندهاش. بل هي حسرة مصلح يعيش قلق سؤال النهضة ويتحسس أزمة مجتمعه ويرفض التسامح مع تخلفه. وكل أعماله الأخرى تصب بشكل مباشر في عملية الإصلاح. نستطيع معرفة حقيقة الحسرة وأبعادها كلما اطلعنا على كتابات ورسائل الحجوي وتجربته السياسية والإدارية في مجال الإصلاح. نجد هنا وهناك موقفاً يفيض حسرة ويتفجّر ألماً. ولكنه لا يقف عند الحسرة بمجرد إبداء الدهشة. بل لقد قدّم برامج إصلاحية عملية أثناء توليه لمناصب إدارية في الدولة المخزنية. ومن نظائر هذا الألم والتحسّر، مقارنته بين عدد سكان بغداد في العصر العباسي (من حيث كون عدد نفوسها مليونين) وعدد ساكنة باريس (المليون) مثل هذا ذكره الطهطاوي في تخليص الإبريز، وإعطاء أهمية للمواصلات وأيضاً الاتصالات (التلفون). ولا تقتصر المقارنة عند الحجوي بين باريس والمغرب، بل يصدق الأمر على عموم البلاد العربية والإسلامية. وقد بلغ هاجس المقارنة أوجه من خلال النص التالي:
«وقد دخلنا لغرفة فقالوا: هذه فيها الكتب التي ألفها علماء أمريكا، وهي تعدل بمكتبة القرويين ومراكش معاً إلا أنها مطبعية، فقلت في نفسي: هذه أمة جاءت في الزمن الأخير ألف علماؤها هذا العدد من الكتب وما استقلت إلا منذ نحو مائة وخمسين سنة، فما أعظم مدارك البشر إذا كان عائشاً في جو صافٍ يستنشق فيه هواء الحرية المطلق ويتغذى بلبان العلو والتهذيب، ليت شعري، ماذا ألفه علماء المسلمين في هذه المدة؟!»[48].
تبرز هنا أهمية النظام الذي تخضع له كل فعالية المجتمع ومؤسساته وسلوكه، من النظام السياسي إلى نظام المرور. وقد أشار الحجوي إلى ما كان يميز نظام لندرة لندن في نظام المرور بخلاف ما كان من أمر هذا النظام بباريز. فهنا السير يكون من اليسار. ومع اختلاف النظامين إلا أن لا أحد يصدم الآخر. وقد بدا له أن هذا النظام شبيه بما في أعراف السير في مدينة فاس لولا أن الالتزام بهذا النظام كثيراً ما ينتهي إلى اصطدام. وهنا يحمد الله أنه ليس لدينا عربات سيارة وإلاّ حصلت الكارثة. إن هذا النظام يتجلّى في عموم المؤسسات الأوروبية. ولا ننسى أن حسن التنظيم الاجتماعي هو من أبرز ما أثار ولع الرحّالة العربي الحديث في الديار الأوروبية. ويعزو له كل هذا الرقي الذي ميّز هذه الديار ووسم تلك الأمة. وهنا لا مجال لقياس ذلك بما لدينا. ففي وصف الحجوي للمجلس البلدي عبّر عن حسرة هذا الفارق الكبير. فمثلاً أشار إلى أهمية التراتبيات والأخلاق المهنية واختيار الرجل المناسب حسب الكفاءة، وذلك حينما يقول: «فتجد شيخ المدينة مثلاً أزيد أدباً ولطفاً ممن تحته في الرتبة إذ لا يرشح للمناصب الكبار عندهم إلا الكبار وليس المراد الكبار الجثة أو العمامة أو، أو، بل الكبار قلباً وعلماً وأخلاقاً»[49].
وهاهنا لا مجال لقياس ذلك بحال مدينتنا. فالحجوي يلخص وصفه للمجلس البلدي بكلام غاية في الوصف: «وأجمع لك وصف هذا المجلس بأن نقول: إنه على قدر عظمة المدينة ورفاهيتها وارتقائها فلا تقسه ببلدية فاس مثلاً»[50].
لا يزال هذا الفارق كبيراً حتى يومنا هذا بين طريقتين في التنظيم والتدبير. ما يجعل حسرة الحجوي وأمثاله من المصلحين تتوارث جيلاً عن جيل. فالمجالس البلدية في ربوعنا هي بالأحرى أوكار للفساد المهني وفشل في تدبير الشأن العام. كما أن المناصب والتراتبيات ظلّت موسومة بالطغيان والتفرد والانتهازية. والعلم والكفاءة هما آخر المعايير التي ينتخب المرشحون على أساسها. فهي غنائم حرب انتخابوية وليست تنافساً شريفاً للنهوض بمسؤولية الارتقاء بالأمة إلى منازل أفضل. وليس غريباً أن يؤدي الاهتمام بالصناعة والعلم إلى ذلك المستوى من التدبير والتنظيم في باريز لا بل في عموم فرنسا وأوروبا. فطلب العلم والمعارف هنا يصل حد الهيام (الهيام بالعلم). والتعليم هنا إجباري. يتحدث الحجوي عن مرحلة لم يكن التعليم في بلادنا إجباريًّا. مع أن التراجع في التنمية وشيوع ثقافة التخلف من شأنها أن تعطل التعليم حتى لو أصبح إجباريًّا، كما تؤكده مؤشرات العزوف والهجرة والانقطاع لأسباب وظروف تتعلق بغياب البنيات التحتية لنظام تربوي فاعل ومنتج ومبني على خطة نهضوية حقيقية. لكن مع ذلك كان وضع البلاد الأوروبية أفضل من حال بلداننا، بسبب الأمية وعدم التمدرس. فبذلك «القدر ارتقى مجموع الأمة من الحضيض الذي وقع فيه مجموع الأمم غير المتمدنة التي لا يعرف غالب أفرادها كتابه ولا أدباً ولا حساباً ولا.. ولا كأهل المغرب الأقصى مثلاً»[51].
من جهة أخرى، وإن كانت نبرة الحجوي قاسية على تخلف المجال المحلي، وإن كان يتعمد أن يستفز بقسوته تلك العقل المغربي وبالتالي العربي والإسلامي للأخذ بأسباب الرقي، إلا أنه كان يحرص على ضرب من الموضوعية في وصف عادات الفرنجة وذكر بعض مثالبهم. لكنه لا يقف عندها أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى مصلح يهمه أن يركز على عوامل التقدم التي هي هدف الخطاب الإصلاحي الرحلوي. فالمثالب المذكورة تتعلق بانزلاقات أخلاقية بعضها مركوز في أخلاق القوم وثقافتهم وليس بالضرورة أنه مقوم لنهضة القوم. فحينما تطرق إلى باريز كمدينة مدهشة يقصدها الناس والكبراء من كل بلاد العالم، أثار انتباهه ما يخرق هذا الإعجاب من انحرافات يقول عنها: «غير أنها كعبة الطائفين للتهتك لا التنسك، وركن التفرج والتفسخ لا التبرك، ومسرح التفنن في الأزياء الكثيرة والزخارف الوفيرة والرفه البارع والتهتك بدون وازع وترتيل آيات الملذات والإشباع وإيقاع المثالث والمثاني والأخذ بالقلوب والأسماع»[52].
إن الحجوي يدرك أن لا شيء قابل للنقد هنا إلا ما يتعلق بالأخلاق. وهذه من نواقص تلك المدنية. وإذا كان المصلح لا يرى ما يمنع من إقامة مقارنة بين أوروبا والبلاد الإسلامية فيما يتصل بالعمران والمدهش من صنائعها ومحاسن نظمها الاجتماعية، فإنه لا يمنع من إقامة مقارنة بين أخلاقهم وأخلاقنا؛ «إلا أن المنتقد له أن ينتقد أموراً هناك لا تناسب الأخلاق العالية، كالتكلم بكلمات بذيئة سفيهة، والرجل هناك يحضر ومعه أخوه وولده ووالده، وفيه ما يهيج شبق النفس للخنا وارتكاب الفواحش وغيرها»[53].
فالنقد هنا أخلاقي لا شيء آخر. والحكم على انحرافات المدنية الأوروبية يتم من منطلق الأخلاق المعيارية المشتركة والمدركة في الفطرة المركوزة في وجدان البشر. وقد استمر هذا النقد الأخلاقي للأدب الفرنسي إلى مراحل متأخرة كما أثار حفيظة أدباء كبار نذكر على سبيل المثال ليون تولستوي. وهو ما يعزز مشروعية نقد الحجوي لتلك الفنون الفرنساوية وعوائد ذلك الاجتماع في زمن مبكر. إلا أن الحجوي لا ينظر إلى هذا التهتك والفساد نظرة غير تعليلية. بل إنه تمثل موقفاً سوسيولوجيًّا خلدونيًّا يرى أن الفساد يساوق الرّفه والترف وما شابه. فتلك «نتيجة الرفه الزائد، والحرية المطلقة، وعدم التمسك بأهداب الدين ولاسيما النساء؛ فقد خلعن ربقة الحياء وتبرجن تبرّجاً لا يتصور فوقه إلا سفاد الحيوانات في الطرق جهاراً. إلى هذا الحد وصلوا أو قربوا منه، وفعلوا مقدماته جهراً فهذا شيء أفسد الأخلاق ولا تتحسنه الأذواق، ولا يقول به طبع ولا عقل ولا شرع. زد على هذا كثرة البذخ والترف والتظاهر بالغنى، والفخر بالمال المؤدي إلى إضاعته (...) وهذا شيء طبيعي في الكون والشرف، كل أمة ما زاد ترفها إلا وزال شرفها، ولله في خلقه شؤون»[54].
هي الرفاهية المفرطة غير المقيّدة بوازع أخلاقي أو ديني. وضريبة التفنن اللاّمشروط أو لنقل التكامل في هذا النمط من الاستهلاك. وذلك لأنهم «تفننوا في كل شيء، وبلغوا النهاية في التمدن والرفاهية»[55].
إنه على الرغم من ملاحظاته على أخلاق القوم، لم يجعل الفساد الأخلاقي لهذه المدنية مانعاً من نشدان الرقي. فليس الفساد الأخلاقي معلولاً لهذه المدينة بالضرورة بل هو حصيلة الرفه وأخلاقيات التدبير والمعاش والإسراف. ومع ذلك يقرؤه قراءة سوسيو-اقتصادية ترتكز على السوسيولوجيا الخلدونية كما لا يخفى. من هنا بدا له أن النقد الأخلاقي لهذه المدنية مشروعاً. ولكن لا يجب أن يحجب ذلك عنّا جوانبها المهمة. ليس في حدود الصنائع العلمية البحتة فحسب، بل في العلوم الإنسانية والتدبير والإدارة والتفنّن في لعلم والمعرفة والآداب أيضاً. إنه يطلب ضرباً من المدنية المهذّبة. فالفساد في تلك المدنية يرجع إلى أسباب رئيسية ثلاثة: الرفه الزائد والحرية المطلقة وعدم التمسك بالدين. وحينئذ يمكننا اعتبار ذلك وجهاً من وجوه النقد المبكر للغرب في حدود النقد الأخلاقي للحداثة. المسألة لا تتعلق بالحرية التي كانت قبلة للمصلحين يومها، بل الأمر يتعلق بالتحلل من كل قيد أخلاقي أو ديني معياري. فالحرية هناك تقوم على معيار أصالة الفعل الفردي دون قيد أو شرط وليس لها حدود إلا فيما يهدد حرية الآخر المنطلقة والمتحللة من كل القيم. وأيضاً هناك مشكلة الرفه، لا سيما حينما يصبح ثقافةً ويغرق الاجتماع في دورة من الاستهلاك الهوسي. إننا نقف من خلال الحجوي يومها على مسألة هي محل اختلاف بين المصلحين المسلمين والغرب: آفة النظام الليبرالي، والنظام الرأسمالي. وهي اليوم موضوع للنقد السّوسيو-اقتصادي للمجتمع الغربي، ما فتئ أن قام به نقاد غربيون في مراحل لاحقة.
المقارنات بين مدائن أوروبا
تبدو الرحلة الأوروبية في وصف المدهش من مدنية باريس نموذجاً ليس إلاّ، باعتبارها ليست مقصورة على باريس، بل هي مدنية شاملة لكامل أوروبا: «ثم هذا الذي قررنا ليس خاصًّا بأهل باريز، بل عموم فرانسا يوجد فيها هذا القدر من التعلم، بل عموم أوروبا تقريباً»[56].
ولقد أقام الحجوي مقارنة بين باريس ولندن وأدرك تفاصيل حياة المدنيتين. ومع أنه لا يرى فارقاً مهمًّا بينهما من حيث أصل المدنية إلا أنه احتفظ ببعض الملاحظات ذات الطابع التفصيلي. لقد حافظ الحجوي على موضوعيته في هذه المقارنة، وإن كانت ظروف الرحلتين إلى باريس وإلى لندن قد تركتا آثارهما على الوصف. ففي الأولى كان مبعوثاً رسميًّا في بعثة دبلوماسية. أما في الثانية فهو سائح تاجر، واجه من مشاكل وأثقال البيروقراطية الإنجليزية ما جعله يشمئز منها اشمئزازاً. لكن مع ذلك هجا بقدر ما امتدح من عوائدها وأخلاقها كما تراءت له في يوميات الرحلة. فقد لفت انتباه رحّالتنا إلى إحدى مميزات لندن عن باريس، بما يوافق عوائد بلادنا الإسلامية حينما يقول: «ومما يلاحظ هنا في الفرق بين أخلاق الإنجليز والإفرنسيين أن هذا المركب فيه محل خصوصي لركوب النسوة، وهو أحسن محمل في المركب، لا يدخله الرجال أصلاً. وكذلك يوجد هذا في السكة الحديدية الإنجليزية، وهذا ما رأيناه قط عند الإفرنسيين، وإنما نسمع بوجوده عند العثمانيين، وما أحق هذه العادة أن تكون عند عامة المسلمين، برًّا وبحراً، لما عندهم من الحجاب والحشمة»[57]. الإنجليز في نظر الحجوي هم أكثر ميلاً للحياء والحشمة من الفرنساوية. فمن «المعلوم في أخلاق الإنجليز شدة الحشمة والوقار، وقلة التهتك في نسائهم ورجالهم باعتبار الغالب فيهم بخلاف غيرهم»[58].
كما يعيب على الإنجليز بيروقراطيتهم. متحسراً على الأيام التي ضاعت في «الذّهاب إلى محل البوليس وانتظار النوبة والجواب على الأسئلة والطبع على الورق ونحو هذا مما لا فائدة فيه لنا ولا لهم»[59]. وقد انزعج رحّالتنا أيما انزعاج من هذه البروقراطية والطريقة والطباع الإنجليزية التي رآها على خلاف مع طبائع الفرنسيين. فالبوليس الإنجليزي يبدو عبوساً وابتسامته تأتي بعد ذلك باردة، في حين أن الفرنساوية هم أرفق بالمسافرين وأبشر من الإنجليز. وربما تعجب أحدنا وهو يجد رحّالة مغربي مثل الحجوي ينتقد البيروقراطية الإنجليزية في ذلك الزمان من انحطاط مدنيتنا. لكن لا ننسى أن الأمر طبيعي، ما دامت رحلته إلى باريس هي ديبلوماسية، في حين أن الثانية هي سياحية عادية. ففي الأولى كان معفياً من الاحتكاك بمثل تلك الدوائر وفي غنى عن تدبير تلك الأوراق وحينئذ من المؤكد أن الفرنسوية فضلاً عن خبرتهم بالطبائع المغربية يومها أكثر من غيرهم من الديار الأوروبية الأخرى، كانوا أبشر من الإنجليز في استقبال الحجوي المبعوث الرسمي وليس التاجر الذي لا يعرفه الإنجليز. ومع ذلك لا بد من القول: إن الحجوي في مقارنته بين البلدين لم يقف فقط عند هذه النقطة، بل عدّد جوانب أخرى من الفوارق بينهما. ففي المجال الصناعي، نجده، وإن تحدث عن جمال ورقي الفن الفرنسي والعمارة الفرنسية يعترف بقوة الحركة والصناعة الإنجليزية. وعموماً فإنه أفرد فصلاً أو مطلباً من رحلته لذكر أنواع المفاضلة بين لندرة (لندن) وباريز مسّت وصف الهياكل والبنى التحتية وما شابه وكذا الأخلاق والعادات. فمثلاً تراءى له الإنجليز في التجارة صادقين. وعدم خداعهم في التجارة سبب لانتشار تجارتهم في العالم. ولا يفوت الحجوي التمييز بين صدقهم وعدم خداعهم في التجارة ومسألة الصدق في السياسة. لنقل بتعبير أكثر دقّة وحداثة: إنهم أكثر تشبتاً بالأخلاق المهنية في التجارة من غيرهم. لذا فإن الإنجليز «مشهورون في العالم بمعرفة طرق التجارة وأساليب الاستيراد والإصدار، وأعانهم على ذلك ما عليه تربيتهم من صدق المعاملة والقناعة بالربح القليل ليباع العدد الكثير. ويقولون: القليل في الكثير كثير، وهذه قاعدة مطردة ضرورية، فصدقهم في المعاملات الصدق التام الفائق في ذلك غيرهم هو الذي مهّد لهم الاستيلاء على معظم تجارة العالم، فالإنجليزي إذا سمّى لك الثمن فخذ أو اترك ولا تفاتحه في المهاودة، هذا خلق الكثير منهم أو الكل فيما سمعنا ممن طال مكثه بين ظهورهم الآماد الطويلة، مع صدق لهجتهم وعدم خداعهم في التجارة لا في السياسة، فحصلت للعالم بهم ثقة تامة أعانتهم على اتساع متاجرتهم مع أقطار العالم»[60].
يقول هذا رحّالة مغربي، يدرك ما يقوله. لأن الحجوي أيضاً هو رجل أعمال وتاجر. وله كتاب مخطوط في الخزانة الوطنية بالرباط يستعرض فيه جميع ممتلكاته. ليس طبعاً من باب أخلاقيات السياسي التاجر الذي يخشى أن يتهم تحت بند «من أين لك هذا»، بل هو ذكاء منه، لأن عادة السلطة المخزنية يومها وضع اليد على الكثير من ممتلكات رجالاتها. لقد كانت زيارته إلى لندن في الأصل زيارة تجارية. فهو لا يسلّم للإنجليز بالصدق في السياسة، لكنه يسلّم لهم بالصدق في الاقتصاد والتجارة. ويرى أن تلك قاعدة. ولعلها كانت مراكمة تجاربه التي أهّلته للعناية بالإصلاح الاقتصادي من خلال مشاريعه الإصلاحية في كتاباته ورسائله الكثيرة.
كذلك يعدّد من الفوارق بين مظاهر العمران الباريزي والإنجليزي ما يتصل بالخصوصيات الثقافية والعادات بين البلدين. فمن أخلاق الإنجليز مثلاً حب الرياضة البدنية وفاقوا فيها غيرهم. «نعم إن الفرنساوية اعتنوا بالأزهار فاستغنوا بالرياضة الفكرية عن البدنية وهي لا تغني»[61].
ولا ينسى أن يعقد مقارنة أخرى بين الإنجليز والفرنساوية وأيضاً المغاربة. وهذه المرّة في موضوع النظافة. إنه يرى أن المغاربة أنظف من الإنجليز. ومثاله على ذلك اعتماد المناديل والزيوف. فلا «تقل لي: إن المغاربة ليس لهم زيوف، إنا نجيبك بأن فقيرهم وحقيرهم له زيف واحد بعد الأكل، ولا بد عند المغاربة في غسل الأيدي بالصابون وتجفيفها في الزيف، وفي تلك نهاية النظافة وذلك مفقود عند غيرهم، لذلك جعلوا لكل آكل زيوفاً، أما الإنجليز فلا، نعم، في الأوطيلات العالية يعملون بعادة الإفرانسيس»[62].
وثمة أمر لفت انتباه رحّالتنا له صلة بالتعصب تجاه الآخر. وقد أرجع مسؤولية الاندهاش من المختلف إلى هذه النزعة. ما يؤكد أن في نصوص الرحّالة ما هو سابق لبيان معرّة التعصب الحائل دون التعارف. لقد تحدّث غير ما مرّة عن هذا الاندهاش المبالغ فيه من الاختلاف في عادات المأكل والملبس والمسلك في المسألة التي وجّهت له من قبل الجالية المغربية المقيمة بتلك الديار. «فما أشد تعصبهم، وما أحسن تسامح المسلمين الذين لا يعيبون على الغريب شيئاً»[63]. ومن هنا رأى الأمثل في أن يلبس المسلم لباس القوم لما يكون في بلادهم. ليس فقط لتجاوز الحرج، بل من أجل المصلحة وعدم فوتها وتجنب الخداع. هنا الحجوي البراغماتي الواقعي الذي يكيّف فتواه كفقيه بالمصلحة. ويشرح هذا الموقف من خلال جوابه عن السائل:
«إلا أنه لما وقف إزاءنا أول كلامه نظر إلى لباسنا المغربي قال: هل أنتم يهود، فقلنا، نعوذ بالله، بل مسلمون، فقال: سامحوني، التبس عليَّ الأمر، بهذا اللباس غير المنتظم الذي فيه بعض زيادات على البدن لا فائدة فيها، فقلت في نفسي: لهذا أفتى الشيخ محمد عبده بلبس البرنيطة في بلد الكفر، وكل من يلبس اللباس المخالف للزي الأوروبي في أوروبا فإنما يتعرض لمثل هذه الأسئلة ولضياع دريهماته (...) فإن كان تاجراً فذلك الخسران المبين في تجارته، ولا تظهر ثمرة دينية للبقاء في بلدهم بزي غير زيهم إلا إشهار الإنسان نفسه وجعل عرضه هدفاً للضحك والمسخرة والإهانة. فلباسهم كسلاح يدافع به المتلاعبون بدراهم الغرباء (...) ولا يتخلص الغريب منهم إلا بلباسهم ولسانهم. فإن كنت في بلدهم فالبس لباسهم وتعلّم لسانهم تأمن مكرهم»[64].
إذن، نحن في الرحلة الأوروبية أمام وصف يحاول أن يحافظ على موضوعيته. يوازن بين ذكر المحاسن والمثالب.. لكنه يحتفظ بالحسرة على تخلف المجال. بل أكثر من ذلك، يرى أن المدنية تقوم بالعلم والصبر والكدح وينتقد العقل الكسول ونزعة الملل. فالعقل الملول لن يتقدم ولن ينتج شيئاً. وقد استعرض حكايته مع رفاقه حينما كان بزيارة لإحدى المكتبات:
«ثم إن رفقائي ملوا كثيراً وضجروا من كثرة ما رأوه وأرادوا الخروج، فقلت لهم: ألستم طلبتم رؤية الكتب الخطية فنحن ننتظر وصول المكلف بها؛ عجباً لكم! ما حصل ملل لمن ألّف، أو كتب، أو طبع أو سفر أو ادخر أو بنى أو رصف أو جنس ولا لمن يرينا ويطلعنا! فلا أمل في ارتقاء من به داء الملل، فاطلل آفتنا العظمى وسبب من أسباب تأخرنا وتقدم غيرنا – إنا إذاً لمن العاجزين. ولو كنتم في ملهى ما مللتم»[65].
* تأثير خطاب الرحلة في عملية الإصلاح
إذا أخذنا عينات من تلك الرحلات التي تمت بإرادة السلطان، على شكل بعثات علمية أو سفارية، نجد أن تلك الأسئلة والصور التي نقلها الرحالة، انعكست في صورة ما في برامج وعملية التخطيط لمشاريع تحديث البلاد. فالطهطاوي نفسه يتحدّث حين الرجوع من باريس، عن تحقق أهداف الرحلة حينما يقول تحت عنوان (في رجوعنا من باريس إلى مصر): «من المعلوم أن نفس القارئ لهذه الرحلة تتطلع إلى معرفة نتيجة هذا السفر الذي صرف عليه ولي النعمة مصاريف لم تسبق لأحد من الملوك ولا سمع بها في التواريخ عند سائر الأمم (...) فكيف وإرسال ولي النعمة للأفندية إلى باريس قد نجح غاية النجاح وأثمر، حيث إن جلهم قد اكتسب رضاء صاحب السعادة، وسارع في المطلوب وعن ساعد الجد والاجتهاد شمر»[66].
ثم بعد وصفه للمكانة العلمية لعناصر البعثة الذين أصبحوا أطراً علمية وإدارية لمصر، يقول: «وأقول حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن والتعلم على منوال بلاد أوروبا، فهي وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة»[67].
وكان ذلك حال الحجوي الثعالبي أيضاً بعد الرحلة. إذ لم تقف محاولته في صميم كتابة الرحلة ولم تكتفِ بمحض الإخبار عن أحوال أوروبا ومدنيتها. بل إنه واصل العمل الإصلاحي من مستوى فكري وعلمي من خلال نشاطه العلمي المشهود وتأليفاته التي حملت مشاريع الإصلاح بجراءة. وأيضاً فعل ذلك من مستوى مسؤوليته داخل جهاز السلطة ومشاريع الإصلاح التي تقدم بها سواء إلى السلطان أو إلى الحماية قصد النهوض بالإصلاحات الضرورية. ويجب أن نذكّر أن الحجوي الثعالبي ممن تعامل ببراغماتية كبيرة مع الحماية التي تولّى مناصب ومسؤوليات مخزنية في ظلها. وقد كان هذا هو سبب عزوف المغاربة عن أخذ آرائه الإصلاحية المهمة مأخذ الجدّ. وقد كان من دأب المغاربة ألَّا يلتفتوا إلى أي مشروع ويجرحوا في أي جهة تعاملت مع الحماية ولا يجدون لها مبرراً. والحق أن الحجوي كان مصلحاً كبيراً حتى أن موقفه الإيجابي من الدور التحديثي الذي قامت به الحماية يجب فهمه على أنه رأي ظلّ مرفوضاً حتى الساعة. لم يكن الحجوي مفضلاً للاحتلال أو الحماية. فهو رجل وطني وحامل همّ إصلاحي كبير. غير أن اجتهاده السياسي لم يكن يُمنى باحترام. وقد زادت حرارة سنوات التحرر الوطني من إهمال تلك النصوص التي أقبرها أصحابها لمجرد أن كانوا يوماً ما متعاونين مع الحماية الفرنسية.
وسوف نقف على هذه التجربة في مناسبة أخرى، لنؤكد أن حسرة الحجوي لم تقف عند تأمل الفارق بين المغرب وأوروبا، بل كانت حسرته على كون مظاهر القابلية للاستعمار ظلت تتسع يوماً بعد يوم، مما جعله أكثر قسوة على الداخل وأكثر شدة في نقده. فهو كان ضد كل أشكال الفوضى والثورات التي جلبت الاستعمار إلى البلاد حينما أنهك جسم الدولة في حروب داخلية طاحنة، على الأقل كما يشير كتابه: انتحار المغرب بيد ثواره.
* تساؤلات لا بد منها
هذه عينات من نصوص الرحلة، بشقيها السفاري والاستكشافي. محكومتين بإكراهات لحظتين: الإحساس بالتفوق كما كان من أمر ابن عثمان – أو لحظة الإحساس بالفارق الحضاري بين مدنيتين، كما رأينا في الأمثلة التي أعقبت ذلك كرحلة الطهطاوي أو الحجوي. وقد يجد القارئ أنها نصوص تتقارب على مستوى الوصف وإبداء الدهشة أمام الرقي الحضاري والتفوق المدني لبلاد الفرنجة. وكلهم باح بانطباعه الموسوم يعمق هذا الاندهاش وقوة هذا الولع. وكلهم نظم أو تمثّل شعراً مدحاً لحال ترقّيهم وهجاءً لحال انحطاطنا. وكلهم امتدح باريس وغازلها غزل العروس. لكن في متن هذا الغزل، وهذا التصوير للمدهش، كانوا يعبرون عن التحسر، ويستدعون الفارق بين البلاد الإسلامية وأوروبا. كما أنهم حتى في لحظات الهزيمة والإصرار على تصوير المدهش في هذه المدنية، أدركوا أن لا سبب ينهض بهذه المدنية سوى العلم والتعلم. صحيح أن الوصف ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا ورصد فيها ذلك النصيب من المدهش والعجائبي. لكن في كل لحظة كان هناك توجه إلى روح النهضة وأسبابها. فالعلة هي العلم. لكن علة العلل هي إرادة العلم ومعرفة الطريق إليه.
بعد هذه الإطلالة على أهم نصوص الرحلة بمختلف تعبيراتها كان لابد أن نتساءل الأسئلة التالية:
كيف استطاع أدب الرحلة ابتداء من القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين أن يؤثر في عملية الإصلاح؟ وما هي معالم أثر الرحلة في برامج الإصلاح؟ ما هي مُعيقات تأثير الرحلة في ثقافة الجمهور، وهل أمكنها حقًّا أن تصل الجمهور؟ كيف نقيم وعي الرحالة في هذا العصر، وهل لازالت أسئلة الرحالة حية وأنها أسئلة لم تنجز أجوبتها حتى الآن؟ ما عدا ذلك لا ننسى أن الرحلة كانت بمثابة المحطة الأولى في قيام إصلاحات حتى لو لم تكن حققت حلم أولئك المصلحين، لكن تحديث البلاد على مستوى النظم الإدارية وإقرار الدستور والقوانين وهيكلة الاقتصاد والنظام التربوي والصناعة والجيش.. كلها محاولات أدخلت دول العالم الثالث ولو بصورة مبتسرة غير كاملة وأحياناً مشروطة إلى العالم الحديث! لم يبلغ هذا التأثير مبلغه ولم يحقق نموذجه المثالي. لذا وجب العودة إليه للوقوف عند الفارق الكبير بين ما كان ينشده هؤلاء الرحالة المصلحون، وما تم تحققه اليوم بصورة من الصور. لم يكن في وارد هؤلاء الرحالة ما سيطرأ من مستجدات على الصعيد الدولي والإقليمي والوطني. حيث مجرد التحديث لا يصنع القوة ولا يحفظ البلاد ولا يحفظ الدين. ليس الأمر في أن نتطور بأي شكل اتفق، بل علينا أن ندرك كيف نتطور من دون أن نقع في كوارث حقيقية. وهو ما لم يكن في وارد مصلح مثل الحجوي مثلاً، حيث راهن على الحماية لتحديث البلاد. وربما هو وأمثاله اعتبروا التحديث من غنائم عصر الاستعمار، بما في الأمر من مغالطات تاريخية، نستطيع فهمها اليوم أكثر من أي وقت مضى. لم ير هؤلاء الرحالة إلا مظاهر المدنية وحجم الفارق المهول. لكنهم لم يدركوا خطط المستعمر وطريقته في تدبير المستعمرات والمحميات على أساس الاستتباع وتخريب البنية الاقتصادية والاجتماعية والقيمية للمحلّي. باختصار لقد كان ينقصهم الحس الأيديولوجي والاستراتيجي؛ لذلك كانت قراءتهم للتحديات الخارجية مبسطة وساذجة وتخلو من التعليل. فالغالب على الرحلة، أنها استبعدت خطرين سوف يركز عليهما الإصلاحيون وتيار الجامعة الإسلامية، ألا وهما: الاستبداد والاستعمار. لقد ركّز الرحّالة على التخلف والانحطاط المدني. وهذا وجه من وجوه وصف الأزمة. لكنهم لم يدركوا علاقة وجدل الاستعمار والاستبداد في صناعة التخلف وجلب الاستعمار. إن ما قدمه هؤلاء الرحالة يصلح أن يكون المادة الوصفية الأولى لانبعاث الإصلاح والنهضة. إلاّ أنه لا يمثل كل شروط النهضة والإصلاح. نقول ابتداء: إن هذه النصوص الرحلوية لم يكتب لها أن تصل إلى الجمهور. فقد ظلت حبيسة دواوين السلطة أو حبيسة نخبة محددة. وذلك لأسباب منها: أنها شكّلت وثيقة للنخبة السياسية الحاكمة أو العلمية. لم يكن انتشارها مهمًّا، لغياب سياسة التشريك الجماهيري في مثل هذه القضايا. أكبر دليل على ذلك أنها ظلت مخطوطات لم تر النور إلاّ في السنوات الأخيرة. ومع أن الحجوي أكد بأن رحلته إنما لأجل إطلاع من لم يجرب الرحلة من المغاربة، إلا أنه لا يعني أن محاولته لقيت انتشاراً عند الجمهور. ثم لا ننسى أزمة القراءة وانتشار الأمية التي ذكرها الرحالة نفسه. فلم يوجد يومها وسائل للنشر كالكازيطات التي تحدث عنها كل الرحالة. وحتى مع وجودها لا وجود لتقاليد القراءة والتولع بالمعارف لغلبة الأمية. وحتى اليوم لم نحولها إلى نصوص تربوية نستدخلها برامجنا التعليمية لتربية الناشئة على قيم النهضة والتّرقّي. لا شك في أن وعي أولئك الرحالة كان متقدماً جدًّا بالمقارنة مع أغيارهم. فهم صفوة من كان يختارهم السلطان بتعبير الرحالة المغربي أو ولي النعمة بتعبير رفاعة الطهطاوي. ولا نزعم أنهم حتى في تركيزهم على مظاهر المدنية وعدم التطرق إلى صلب إشكالية الاستعمار والاستبداد، كعائق أساسي للتحديث وصانع التخلف، لا نزعم أنهم كانوا خائنين لقضيتهم. بل إن معالم التحسر ظلت بادية على مواقفهم ولسان حالهم: نحن أولى بهذا الإنجاز من أولئك الفرنجة! إن جزءاً كبيراً من التسطيح راجع إلى أن مخاطر الاستعمار. واستراتيجيته لم تكن معروفة كما هي الآن. فليس من المعقول أن نقيّم تلك الآراء بأثر رجعي. ربما ظنّ البعض لتبرير مواقف بعضهم أنها من ذكائهم المبكر. وربما من فرط وعيهم المتقدم على عصرهم فعلوا ما فعلوا.
وقد نجد اختلافاً في الوعي بين رحلة وأخرى. وقد نجد تفاوتاً في المدارك بين هذا الرحّالة أو ذاك. لكن مع كل ذلك ظل هناك وعي أساسي مشترك لا يزال بمنزلة جوهر الخطاب الرحلوي: العلم كسبب للنهضة. إننا نرى أن ما طالب به الرحالة وما خرج به من انطباعات ينقسم إلى قسمين:
الأول: يتعلق بالتحديث والعلم والعمل.
الثاني: يتعلق بمظاهر الثقافة والأخلاق المحلية للفرنجة.
وقد نجد الأمور قد تغيّرت اليوم. فما كان يراه هؤلاء كبيرة من الكبائر، حدث فيه تراجعات وتنازلات كبير. بل غدا من المسلمات وأحياناً من الضروريات. وبينما كان يركز بعض الرحالة من أمثال الحجوي على مسألة الزي واللباس، حتى أنه عاد ليجيب المقيمين المغاربة في لندن عن مسألة لبس البرنيطة وما شابه، حتى اعتبر لباس البرنيطة من دون ضرورة ومحبة فيها «ردة»، فإن مثل هذا الموقف تراجع ولم يعد مقبولاً. بل أصبح عنوان تطرف غير مهضوم وقاصر عن الاستيعاب اليوم.
كان علينا أن نتساءل عن كل هذه الأسئلة من هذا القبيل التي طرحت حينئذ وتم التراجع عنها، لندرك أن عدد الحواجز النفسية والثقافية وأيضاً الشروط التاريخية والحضارية كانت كفيلة بإزاحتها. وهذا الاقتصاد في الموانع، يقلل أيضاً من مستوى الممانعة السيكولوجية والثقافية تجاه الآخر. إن ثورة الاتصالات وغيرها مكّنت الشعوب الإسلامية المعاصرة من الوقوف على مستويات جديدة مدهشة. ولعل ما كان مدهشاً يومها في الغرب أصبح جزءا من حياتنا اليومية. هناك ثورات أخرى في أوروبا والعالم الحديث فاقت كل الثورات السابقة. وما أن نسعى حثيثاً للتكيف مع إكراهات الأولى حتى تنهمر إكراهات أخرى نتيجة قيام ثورة أشد من الأولى وأقوى. إذا كان الحجوي وأمثاله اندهشوا يومها لوجود الآلة الكاتبة وما شابه، فنحن اليوم أمام الثورة السبرنتيقية، وأمام مفهوم «البوصة» والعولمة وانتقال المعلومة بصورة بدت «الكازيطات» أمامها أشبه بحفريات تاريخية. إن العالم اليوم يعيش تخمة في المدهش. ولم يعد ثمة شيء يخفى. وكثير مما ينجز اليوم سبقه الخيال العلمي بسنوات حتى بات مركوزاً في الأذهان. وقد بات ما يتخيله المرء اليوم في حكم المنجز القريب لا في حكم الخيالي أو الإمكان المجمل. إن تركيز الرحالة على العلم كما رأينا هو مربط الفرس. ونحن اليوم تجاوزنا الصراع الأيديولوجي مع القوى الاستعمارية الخارجية. بل أصبح الصراع يتجه إلى «العلم». وهذا يعني أن الاستعمار يقبل ويتسامح في كل شيء، إلا أن تزاحمه الصناعة وتشاركه العلم. العلم لم يعد متاحاً في زمن نعيش فيه دورة صراع التفوق العلمي والممانعة ضد انتشاره. إذن أهم ما في الرحلة، مما لم ينجز بعد، ويجب التركيز عليه، هو الدخول في رهان التقدم العلمي. وهذا هو شكل الصراع المستقبلي بين العالم الإسلامي والغرب. فلا زلنا في العالم العربي على الأقل نندهش بعوارض المدنية الأوروبية ولا نكاد نسايرها في أخلاق البذل والعطاء والإبداع. إن دهشتنا لا تصب في حاجاتنا الضرورية. بعد عقود من قيام هذه الرحلات ألفينا أنفسنا أمام ظاهرة الاستلاب بكل أبعاده: الثقافي والسياسي والاقتصادي...وحكاية الاستلاب ليس أنك مجرد تضيّع مشيتك وتمثّل نبرة الغير. هذا منظور تبسيطي للاستلاب. فهذا الأخير هو نتاج موقف ومنهج في الإدراك والفهم والاختيار قوامه افتقاد القدرة على التمييز بين الأولى والثانوي.. بين الأنفع والضار.. بين ما بالذات وما بالعرض.. بين الحقيقي والزائف... ولحظة الاستلاب هي لحظة شرود وضياع في عوارض مدنية لم ننشئها ولم نفهمها ولم نمتلك كيمياء صناعتها. إننا ماضون في استهلاك فائض قيمتها. وفي الاستلاب كما في حكاية فاوست نقبل بصفقة نتنازل بموجبها عن جزء منا. لكن الجزء الذي فرطنا فيه يلاحقنا ليسترد الباقي ويدمره. هذا الذي حصل بالفعل. لقد عقدنا صفقة بموجبها بعنا بعضاً من سيادتنا واستقلالنا وهويتنا مقابل بعض من عوارض التحديث وليس كيمياءه. وما بعناه تحول إلى شبح يلاحقنا عبر أجيال متعاقبة، طلباً لما تبقى لأجل تدميره. إننا اليوم نغرق في الاستلاب، ليس لأن هويتنا على المحك، بل لأننا يوماً بعد يوم تتسع المسافة بيننا وبين إرادة النهوض وصنعة الحداثة حتى لو غرقنا في أكسسواراتها وخردتها وتمثلاتها المغشوشة والممسرحة. فيما الجوهر لا يزال يُنبئ بأننا أمة لم تدخل بعد الكون الحديث إلاّ على إيقاع سياسات التّتبيع. لا زلنا في حاجة إلى رحّالتنا لكي يصف لنا عمق هذه الفجوة بعيداً عن الصورة المغشوشة التي تنتقل عبر وسائط جديدة وبتقنيات سبرنيطيقية عالية لم تكن في مكنة رحّالة القرن التاسع عشر. لكنها لا تنقل إلى الوعي شيئاً بقدر ما تؤدي وظيفة مسخ الوعي. بل هي في العموم تخاطب اللاوعي والغريزة، وتنقل كل شيء عن الحداثة إلا كيمياءها الحقيقية. لم يعد رحّالتنا الذي يحمل لوعة النهوض كما يحمل همّ ترقّي الأمة هو من يتكبد عناء نقل الصورة عن الآخر إلينا، بل هذه المهمة أصبحت من اختصاص الغرب نفسه. فهو يستعرض مظاهر تفوّقه عبر تقنية الصورة بشكل يومي يخاطب فيها أطفالنا وكبارنا مباشرة من دون وسيط تربوي ومحلّي يعزّز فينا ثقافة الهروب والاستهلاك والتمثلات الجوفاء لمعلبات الحداثة. إنهم يقتلون فينا النهضة بتزييف الحداثة. ليس تزييف المحلي لها، بل تزييف أهلها لنا، لكي نضيّع وقتنا ورأسمالنا في فقاعاتها لا في عناصرها الجوهرية التي ظللنا نبتعد عن أسبابها كلما حاولت هي أن تتحول إلى إعلان صوري يفتن المخيلة ويقلب الأولويات ويحجب عن الوعي حقيقة المهام وحقيقة السياسات التي تقتل التحديث بالحداثة وتميت داعي النهضة بالفرجة الرخيصة على منجزات الغير التي اقتنعنا بأن حظَّنا منها أن نتفرج عليها لا أن نصنعها.
[1] hani_dr@maktoob.com
[2] عبد المجيد القدوري: سفراء مغاربة في أوروبا (1610 1922)، ص 52، ط 1 مطبعة النجاح الجديد الدار البيضاء، 1995، منشورات كلية الآداب بالرباط.
[3] م. ن، ص 52.
[4] انظر د. عبد الحفيظ حمان: المغرب والثورة الفرنسية، ص 20، ط 2002، منشورات الزمن المغرب.
[5] م. ن، ص 20.
[6] م. ن، ص 29.
[7] م. ن، ص 29.
[8] م. ن، ص 30.
[9] م. ن، ص 42.
[10] م. ن، ص 43.
[11] كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ص226، تـ: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط 9 دار العلم للملايين، 1981، بيروت.
[12] انظر: سفراء مغاربة في أوروبا، ص32.
[13] سعيد بن سعيد العلوي: أوروبا في مرآة الرحلة، ص 34، ط 1 1995، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
[14] م. ن، ص 37.
[15] م. ن، 44 - 45.
[16] م. ن، ص 36.
[17] م. ن، ص 37.
[18] م. ن، ص 37.
[19] م. ن، ص 39 40.
[20] سفراء مغاربة في أوروبا، ص 51.
[21] رحلة الصفار إلى فرنسا، ص 54، 55، تحقيق سوزان ميلار، تعريب خالد بن الصغير ط 1 منشورات كلية الآداب بالرباط 1995م.
[22] م. ن، ص 55.
[23] م. ن، ص 137.
[24] م. ن، ص 159.
[25] م. ن، ص 163.
[26] م. ن، ص 166.
[27] م. ن، ص 169.
[28] م. ن، ص 100.
[29] م. ن، ص 198.
[30] م. ن، ص 199.
[31] م. ن، ص 113.
[32] م. ن، ص 125.
[33] م. ن، ص 162.
[34] م. ن، ص 168.
[35] م. ن، ص 159.
[36] سفراء مغاربة في أوروبا، ص 130.
[37] م. ن، ص 131.
[38] م، ن، ص 133.
[39] م، ن، ص 134.
[40] م، ن، ص 134.
[41] م، ن، ص 135.
[42] م. ن، ص. 135.
[43] م، ن، ص144.
[44] م، ن، ص 144.
[45] محمد الحجوي: الرحلة الأوروبية، تنقيح وإعداد سعيد بنسعيد العلوي، انظر: أوروبا في مرآة الرحلة، ص 103.
[46] م، ن، ص 103.
[47] م، ن، ص 172.
[48] م، ن، ص 133.
[49] م، ن، ص 113.
[50] م، ن، ص 113.
[51] م، ن، ص 117.
[52] م، ن، ص 116.
[53] م، ن، ص 131.
[54] م، ن، ص 31.
[55] م، ن، ص 131.
[56] م، ن، ص117.
[57] م، ن، ص 158.
[58] م، ن، ص 152.
[59] م، ن، ص 159.
[60] م، ن، ص 169.
[61] م، ن، ص 169.
[62] م، ن، ص 174.
[63] م، ن، ص 171.
[64] م، ن، ص 162.
[65] م، ن، ص 133.
[66] رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ص 272، سبق ذكر المصدر.
[67] م، ن ، ص 274 .
مجلة الكلمة تصدر عن منتدى الكلمة للدراسات واﻻبحاث.لبنان ، بيروت
العدد ( 64 ) السنة السادسة عشرة ، صيف 2009م - 1430هـ
أدب الرحلة وأسئلة النهضة: الرحلة من منظور التجربة المغربية
إدريس هاني
[1]
* الرحلة من منظور آخر
سنقف هنا على عيّنة أخرى من أدب الرحلة بعد أن سبق وقدمنا صورة عن رحلة رفاعة الطهطاوية، بوصفها رحلة نموذجية شكّلت أحياناً مرشداً ومرجعاً لتوصيفات رحلوية لاحقة. وهي بالفعل في العصر الحديث تحتلّ مكانة الرحلة التي قام بها أمثال الشريف الإدريسي أو ابن بطوطة في العصر الوسيط. إنها عمل كلاسيكي بامتياز. هناك إلى جانب ذلك، رحلة قام بها سياسيون وسفراء وأحياناً علماء / سفراء في إطار مهام رسمية. وهو ما ميّز نموذج الرحلة المغربية الحديثة. بعضهم لم يفته أن يقرأ «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز». بعضهم رأى أوروبا قبل رفاعة الطهطاوي. فيما رآها آخرون بعده. إن الوقوف على أنماط أخرى من المواقف والتوصيف ضروري هنا. إنه على الأقل يعكس طبيعة الجدل القائم يومها حول مستوى التعاطي مع صدمة التحديث. واستيعاب مستويات التموقف من سياسات أوروبا، وأخلاقها ومن المسألة الثقافية والدينية وباقي مظاهر العمران. هذه الرحلة، تتعلّق برحّالة مغاربة قلّما وجدت عناية حقيقية من قبل الباحث المشرقي الذي يكاد يجهل عنها كل شيء. وهو يضارع عدم عنايته الكافية برسالة الإصلاح وخطاب النهضة في هذه الربوع. ومع ذلك لا يسعنا إلاّ القول: إنهم في جانب من ذلك هم معذورون، ما دام المغاربة أنفسهم لم يعتنوا بتراثهم الوسيط والحديث العناية المطلوبة، رغم المحاولات المعاصرة التي لم تستوعب الجزء الأقل من هذا الإرث الثمين. وهم في جانب من ذلك معذورون أيضاً، لأن المغرب شكّل تجربة فريدة ما كان لها أن تتقاطع مع مجمل السياسة في المشرق نظراً لاستقلال التجربة المغربية عن المشرقية منذ العصر الوسيط. وليس هناك من المشارقة من اعتنى بالأدوار المغربية في العهد العثماني إلا ما نذر. وهذه العناية نفسها ظلّت تعاني من الضعف حتى في المغرب نفسه قبل أن يبدأ شكل -ولو محدود- من الاهتمام بأدب الرحلة وإخراج متونها من سجن المخطوط والحجري إلى عالم الطبع والنشر. قام ببعض هذه الأدوار آحاد ممن ولعوا بالتأريخ السياسي للمغرب الحديث. ويبدو لي أن المهمة لا زالت تقتضي جهداً إضافيًّا حيث لم ينكسر القلم في هذا المضمار بعد. ثم هناك قدر الجغرافيا، حيث ما يقع في الشرق يتعلق بالمركز، وليس للمغارب من ذلك كلّه إلا هذا الهامش الذي تقف عنده. سواء أتعلق الأمر بالشرق أو بالغرب. فهي الهامش من الجهتين قلّ أن ينظر إليها بعين التفرد والاستقلالية والتّمركز. وقدر المغارب أن تكون على هامش هذا الحدث مهما بلغ سلطان تجربتها. وليس لها إن اقتضى الحال وفي أوج قوتها إلاّ التفرد والاستقلال بتجربتها. وهذا ما حدث للمغرب الجوّاني وحده بصورة تدعو إلى فائق الاهتمام. ومن هنا قصدت أن أتوقف عند عينات من هذه الرحلة في سياق التركيز المطلوب على تجربة يكاد لا يعلم بها -بعد لفيف من المستشرقين المتخصصين في تاريخ المغرب الحديث- إلاّ المتخصصون المغاربة. وهم مع ذلك، في هذا الهمّ، قلّة قليلة. وفيها سندرك أن الاهتمام بخطاب النهضة في السنوات الأخيرة في المشرق العربي بات يستهلك نفسه بإسراف. وهو لا زال يعيد عرض المعروض من دون حتى تأويل جديد ولا إضافات معتبرة. وكأن هذا الخطاب اقتصر على خطاب السيد جمال الدين وحوارييه من أمثال محمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي وما شابه من رجالات الإصلاح الكبار. وبتنا لا نقف على مصلح جديد لم تضبطه عدسة التحقيق غير هذا النفر. وفي ذلك تكريس للحصر العلمي والعجز عن إغناء التراث الإصلاحي بنفض الغبار عن مصلحين لم تبلغهم يد العناية وظلوا مجاهيل في نظر مؤرخي حركة الإصلاح الحديثة في العالم العربي والإسلامي. وللأمانة، فإن هذا ليس مُصاب المغارب فحسب، بل هو مُصاب العرب ما عدا مصر والشام. ففي العراق هناك من رواد الإصلاح والنهضة من لا يعلم بهم وبآثارهم عموم العرب وإن برعوا في هذا الخطاب. وكذا في سائر البلاد العربية هناك رواد إصلاح من المحيط إلى الخليج لم يجدوا لهم مكاناً مناسباً في هذا التأريخ الاختزالي لرواد النهضة والإصلاح العربي الكلاسيكي. ومن خلال هذه العيِّنات التي سنقدمها يظهر أن الولع برسالة الإصلاح ظل همًّا مشتركاً عند سائر رجالات المرحلة. وأن المغرب كان أولى بأن تتشكل لديه تجربة خاصة في هذا المجال ما زالت لم تنفض عن تراثها الغبار. إننا نجدنا في مثال الرحلة المغربية أمام نموذج لرحّالة سفاري وسياسي وهو في الغالب شيخ فقيه ابن القرويين، لا يقل رسوخاً في العلم الشرعي عن الشيخ الأزهري. وبعضهم مشهود له بالعلم والفقاهة التي تجاوزت حدود المغرب. فصاحب «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» مما ذاع صيته في الأزهر وغيره من الجامعات الدينية. ما يعني أنه في الرحلة هو أبعد في الفقاهة والخبروية الدينية من رفاعة الطهطاوي نفسه. كما هو في الموقعية السياسية يفوق الطهطاوي ساعة عزم هذا الأخير على الرحلة وهو شابّ في مقتبل العمر. لكن نظرة السياسي هنا قد تكون مختلفة. ودرجة الإحساس بالعزة ومجد الأمة تظل متفاوتة. وهذا يعكس بالتالي طبيعة الموقف والمنظور والتجربة والشرط الموضوعي للدولة التي كان يمثلها هذا الرحّالة أو ذاك. وأحياناً كان الرحالة الأكثر إعجاباً بمظاهر تلك النهضة يذكّر بين الفينة والأخرى بقيمة الهوية ومجد الأمة الضّائع حتى حينما يتعلق الأمر بالطهطاوي والحجوي الثعالبي، من باب التذكير بأنهم لم يقطعوا مع جذور الأمة. وربما كان ذلك من باب الرقابة الذّاتية. لأن الإحساس بالهوية لا يزال كبيراً في الأمة. ولا يملك الرحّالة ألَّا يُقدِّم شهادة بهذا الاهتمام تجاه أمر يتعلق بالهوية والتراث والثقافة المحلية يفوق ويرجح أيّ اهتمام آخر متى غدا التخلّي عن الهوية شرطاً لامتلاك مفاتيح التقدم.
* الرحلة من منظور التجربة المغربية
ما يميز الرحّالة المغربي عن نظيره أو سلفه الطهطاوي، أن الأول كان محكوماً بجملة من الالتزامات تجاه السلطان والدولة. في حين مثل هذا لم يحصل كله مع الطهطاوي. ومن هنا بات واضحاً أن تشوّق الطهطاوي للحداثة فاق تشوّق هؤلاء الرحّالة المغاربة لها باستثناء الحجوي الثعالبي وإلى حد ما الصفار. إن الرحالة المغربي يعرف ما يطلبه، ألا وهو القوة: أي التحديث. كما أن الطهطاوي عرف المطلوب، ألا وهو النهضة: أي الحداثة. بين التحديث والحداثة سفر فكري آخر في رحاب المطارحات الفكرية التي أعقبت تلك الحقبة وتجلّت بصورة كبيرة في المنتج الأيديولوجي العربي المعاصر. فطلّاب التحديث يسلكون مسلك الانتقاء والتمييز بين نهضة الفكر ومنجز البنى التحتية. وطلّاب الحداثة لا يميّزون بين ذلك البتة. بل يرون أن ثمة علاقة قائمة بين الفكر والواقع.. بين الثقافة والممارسة.. بين الفلسفة والعمران. إن الإغراق في هذا وذاك هو من العويصات التي أرّقت العقل العربي وتاهت به في المتاهات. نعم ثمة ما يجب قوله بهذا الخصوص؛ فالرّحالة المغاربة بمن فيهم أولئك الذين ميّزوا بين الحداثة والتحديث كانوا يدركون أهمية التقدم الذي تشهده الثقافة والسلوك والأخلاق الأوروبية. لكنهم كانوا ينظرون بحذر ولا يسمحون لشيطان الإغراء والانبهار أن يذهب بهم المذاهب وأن يتيه بهم بين السبل. هكذا بدا واضحاً أن المميز للرحلة المغربية قبل رحلة محمد بن عبدالله الصفار ومن عاصره أو جاء بعده -أي المميز لها حتى قبل رحلة الطهطاوي نفسه- أنها أكثر ميلاً إلى سؤال الهوية منها إلى سؤال الترقي. فلو استثنينا رحلة الصفار وكذا الحجوي الثعالبي، سوف نجدنا أمام نمط من الوصف يتمركز حول سؤال الهوية الثقافية والدينية فيه من الاستقباح والاستهجان لعوائد الفرنجة وتقاليدها ما يخفي الاندهاش الجانبي ببعض مظاهر العمران الأوروبي. لا يعني ذلك أن عنصر الإعجاب بمظاهر النهضة الأوروبية لا يوجد في هذا النمط من الأدب الرّحلاتي. لكنه حضور غير مصحوب بالدّهشة، إن لم نقل مغلوب للنظرة الاستعلائية التي تجد تعويضها الكامل في اعتقاد الرحالة بالأفضلية الرمزية لدينه وتاريخه وثقافته. ولكننا وجدنا هذه الخاصية تتراجع مع الصفار كما تكاد تختفي تماماً مع الحجوي الذي شكّلت تجربته غاية الموقف الإيجابي من التحديث والعصرنة تميّز به عن نظرائه في المغرب واقترب به من تجربة الطهطاوي إلى حدّ ما. لكن يبدو أن هاجس الاهتمام بمظاهر الترقي بدا يتكامل شيئاً فشيئاً في تجارب الرحلة المغربية، ما يؤكد أن هذا الاختلاف في طبيعة الموقف يعود إلى طبيعة وظيفة الرحالة وتكوينه وأهدافه. نستطيع التمييز هنا بين أشكال من الرحلات الغالب على أكثرها أنها كانت سفارية، لأصحابها ولاء خاص للسلطان وهم يؤدون وظيفة سلطانية في الديار الأوروبية غالباً ما كانت بعثات دبلوماسية هدفها المشاركة في احتفالات وطنية أو حمل رسائل سلطانية أو التفاوض حول فكاك الأسرى. بعض من هذه الرحلة كما ذكرنا حدث قبل رحلة الطهطاوي، في حين أن بعضها الآخر حدث بعده. وفي كلتيهما نجد تحوّلاً كبيراً تجاه سؤال النهضة. بل نجد تأثيراً متميزاً لرحلة الطهطاوي. وهنا أمكن القول: إن رحلة الطهطاوي باتت تشكّل لحظة تاريخية قطيعية يمكننا بعدها تقسيم الرحلة إلى نمطين: ما قبل رفاعة الطهطاوي وما بعده. قد تكون بعض من هذه الرحلات التي سنتعرض لبعضها، قد حدثت متأخرة عن تجربة رفاعة الطهطاوي. لكنها جاءت مناسبة للظرفية التي فرضت على المغرب الالتفات إلى الضفة الأخرى وما كانت تشكّله من خطر حضاري على المغرب. لاسيما وأن هذا الخطر كان سبباً في احتراز المغاربة من أوروبا، حيث باتوا أخبر بقدراتها قبل أن يفاجؤوا هم أيضاً بنهضتها العسكرية التي كانت أوّل ما أذهل رحّالة سفاري مثل الصفّار. وهنا فقط ندرك أيضاً لماذا كانت هزيمة المشرق الإسلامي مبكرة حينما نقيسها بهزيمة المغرب كآخر القلاع التي سقطت بيد الأوروبيين. فحتى حينما غزا نابوليون مصر كان يحتفظ باحترام خاص للسلطان المغربي. نستطيع القول: لقد سقط الباب العالي قبل أن يسقط السلطان المغربي الذي كان لا يزال يخوض بعد سنوات من سقوط الخلافة العثمانية ما عرف في المغرب بالجهاد البحري، وما عرف عند الأوروبيين يومها بالقرصنة. كان لا بد أيضاً من استحضار معطى آخر ألا وهو أن المغرب هو الدولة الوحيدة التي ظلت خارج الهيمنة التركية العثمانية في عزّ قوتها ومجدها. وبالتالي وصفت في بعض الرسائل الأجنبية بالإمبراطورية. هذا إنما يؤكد أن المغرب كان له نصيب قديم من هذه الرحلات في نطاق التبادل الدبلوماسي. لكنها لم تكن تلتفت إلى ما التفت إليه الرحّالة المغربي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث ميلاد ما سماه علال الفاسي ببداية الانبعاث المراكشي. وحتى ندرك الأسباب الموضوعية لتميز خطاب الرحّالة المغربي، وجب التذكير أيضاً بأن الوحدة السياسة للكيان المغربي والقرب من الديار الأوروبية، جعل النمط الغالب على الرحلة هو الرحلة السفارية. وهي لذلك تميّزت بنوع من التعالي والتحدّي والاعتزاز الهوياتي. مهما حاول أصحابها التقيد بالموضوعية في الوصف كانت تأخذهم حالات من التحيز. وذلك لأنهم لم يستطيعوا التخلص من إحساسهم بأنهم الأمة العظيمة الغالبة والقاهرة والمهابة من قبل الفرنجة على امتداد قرون من الزمان. فهم -باستثناء بعضهم فقط كالصفار وإلى حد كبير الحجوي- يذمون كثيراً ويستحسنون من معالم قوة الديار الأوروبية ما يرون أمتهم أولى به من الفرنجة أنفسهم. وقد كان من الطبيعي أن يتأخر هذا النمط من الخطاب الرّحلوي المتمحور حول سؤال النهضة، حيث إن المغرب حتى حدود القرن التاسع عشر، لم يكن على يقظة واهتمام بالخطر الذي كان يتهدده من جهة الشمال، الآخذ يومئذ في تطور حثيث ونهضة عسكرية ومدنية لا تضاهى. فالعلاقات الطويلة مع فرنسا وباقي الديار الأوروبية كانت تعرف حالة من الاستقرار النسبي حتى مع وجود واقع حركة القرصنة التي شكّلت ثابتاّ من ثوابت سياسة السلطان المغربي، لأنه كان يدعمها. بل لم تعد القرصنة أمراً حرًّا فوضويًّا بل كان عملاً منظماً تسهر عليه الدولة في إطار ما عرف يومها -كما ذكرنا- بالجهاد البحري. وكانوا يقومون بالقرصنة لدعم خزينة الدولة وإثبات قوتهم عبر هذا العمل الروتين الذي كانوا يقومون به شهرين في كل عام. يؤكد ذلك قول المهدي الغزال: «ومن بركة مولانا الإمام وفضله وعظمته وعدله إلقاء الجزع من سفنه في قلوب المشركين، وبقاء الجزع من قراصينه الجهادية في أحشاء أعداء الله الكافرين، يحذّر منها بعضهم بعضاً، ويتنكبونها في البحر وطرقه طولاً وعرضاً. على أن سفن سيدنا الجهادية مقصور جهادها على شهرين في السنة... وصار العدو الكافر يترك البحر في الشهرين المعلومين ويسافر بقية السنة لينال في ذهابه وإيابه مأمنه»[2].
ويؤكد بروديل «في المتوسطي والعالم المتوسطي»، أن القرصنة كانت ظاهرة كونية، ليست ملكاً لطرف آخر في البحر المتوسط[3].
وعلى الرغم من أن نشاط القرصنة كان عامًّا متعارفاً، أدارته دول ومارسته بوصفه جزءاً من نشاطها العسكري البحري الروتيني، إلاّ أن فرنسا بدأت تستغلّ هذا النشاط لتتحرّش بالمغرب. وقد تحدثوا عن جملة الكتابات التي كانت تحرّض فرنسا ضد المغرب باسم ملاحقة القراصنة -من سلا- من حيث كانت مجرد ذريعة لتنفيذ مخطط بعيد المدى في رهاناته الاستراتيجية والحضارية. من بين تلك الكتابات التحريضية ذكروا كتاب فولني (Volney Ruines Les) نشر في باريس سنة 1791م: «إن العالم الإسلامي هو مثال واضح ورمز للاستبداد»[4]. وفي السياق نفسه يذهب جوزيف كوراني في (Gouvernement. Recherches sur la science du) إلى القول: «ينبغي على الأمم الأوروبية أن تمنع البرابرة (بلدان إفريقيا الشمالية) أن تتحكم في البحار وتقوم بهجماتها على صقلية وسردينيا وفي سواحل إيطاليا والبرتغال وإسبانيا وفي بعض الأحيان في سواحل فرنسا..، وعليها (أوروبا) أن تخير هؤلاء القراصنة على الاشتغال بزراعة أراضيهم كما من واجبها القضاء على حكوماتهم الاستبدادية»[5].
استمرت علاقة المغرب بفرنسا حتى بعد إقدام هذه الأخيرة على احتلال كل من إسبانيا والقاهرة. ولم يكن الخطر الفرنسي بالنسبة إلى المغرب وارداً حتى تلك اللحظة. لقد تأخر التفات المغرب إلى الخطر الفرنسي. وجدير بالإشارة الوقوف على بعض الحقائق التي من شأنها بيان الفارق في الميل والذوق واللهجة بين النمطين المذكورين من الرحلة. لماذا الرحالة المغربي حتى في لحظة الاندهاش والصدمة لم يكن مأخوذا حتى الأخير في دهشته من التفوق الحضاري لفرنسا؟ إن للمغرب حكاية أخرى في موقفه من التحولات السياسية التي شهدتها فرنسا وكان لها أثر في باقي التحولات التي عرفتها الديار الأوروبية فيما تلا ذلك. وأعني تحديداً الموقف السلبي للمغرب من الثورة الفرنسية. علينا أن ندرك أن موقف المغرب من الثورة الفرنسية لم يكن إيجابيًّا منذ البداية لأسباب تتعلق بالموقف السلطاني منها ومن رجالاتها. وليس مرد ذلك إلى أن هواه كان مع فرنسا أقول الثورة، أو للعلاقة الخاصة التي استمرت بين البلدين، ونظراً للموقف الإنجليزي أيضاً الذي ما فتئ ينقل معلومات مشوشة إلى المخزن عن أحوال الثورة الفرنسية فحسب، بل مرجع ذلك إلى عدم استيعاب هذه النظم التقليدية بما فيها الأوروبية حينئذ للبديل الذي طالبت به الثورة الفرنسية ونظراً للخطر الذي مثلته إزاء باقي النظم الأخرى بشعاراتها وفوضاها العارمة. وقد انخرط المغرب بقوة يومها في هذه الحملة، نظراً لعلاقته المميزة مع الإنجليز. حتى أنها كانت العلاقة الوحيدة بين المغرب ودولة أوروبية تميّزت بالكثير من الاحترام للجانب المغربي، بخلاف خطابه الصارم والشديد والمستعلي ضد باقي أقطار أوروبا. عبّر الموقف الرسمي بكل وضوح عن موقفه الصارم من حدث إعدام الملك لويس السادس عشر (يناير 1793م). فقد كتب السلطان المغربي رسالة جاء فيها: «لقد بلغني، أن كل سلاطين أوروبا جمعوا قوتهم واستعدوا لإعادة عرش فرنسا إلى يد ابن الملك الذي اغتيل بكل بشاعة.. وأُعلن أمام الملأ أنني أساندهم وأرغب أن ينفذوا ما عزموا عليه من أجل سعادة البشرية.. وبذلك فإني مستعد للتعاون معهم في هذه المسألة، كما أنني أمنع الدخول إلى أراضينا على كل هؤلاء الفوضويين والأوباش الذين لا يعترفون بعاهلهم الشرعي»[6].
إذن كانت الثورة الفرنسية في نظر المغرب ثورة أوباش وفوضويين. ومثل ذلك كان الموقف التركي العثماني من هذه الثورة. فلا ننسى الرسالة التي بعثها الخليفة العثماني سليم الثالث إلى السلطان أبي الربيع (1799م) يصف فيها الثوار الفرنسيين بأنهم: «الطائفة الخائنون والشرذمة الملعونون ذوو مكر وفساد وأهل بغي وعناد، لا يؤمنون بوحدانية الله ولا يعترفون برسالة محمد بن عبد الله، منكرون ليوم البعث والنشور والويل والثبور»[7].
كذلك إن المؤرخين المغاربة تجاهلوا أحداث الثورة. ومن تحدّث عنها وهم قلّة عبّروا عن رأي السلطة نفسها، كما فعل محمد الجنوي حينما تحدّث عن ثورة الطريقة الدرقاوية، مقارناً بينها وبين الثورة الفرنسية؛ قال: «قام درقاوة في قطرنا، والفرنسيس في قطرهم، وينشأ عنهم جميعاً فساد هذا العالم»[8].
يذكر أيضاً أن مصدر الصورة الهجينة للثورة الفرنسية هي من إيحاء بريطانيا. كانت هناك محاولات بريطانية لنقل صورة مشوهة عن الثورة الفرنسية إلى المخزن وتحريضه وتخويفه بأن فرنسا قادمة على احتلال مدينة سبتة. وكانوا يحاولون إقناع السلطان المغربي بالتحالف مع الدولة العثمانية ضد فرنسا. غير أن موقفاً مغربيًّا جديداً سيطرأ لمجرد أن تتحرك فرنسا باتجاه السلطان المغربي لتغيير صورتها لديه. وقد نجح في ذلك نابوليون ببراعة سياسية تبخرت معها كل المحاولات البريطانية. أعادت دبلوماسية نابليون الثقة إلى العلاقة بين المغرب وفرنسا فيتغيّر الموقف المغربي رأساً. تكرّست هذه الثقة عبر مجموعة من المواقف من بينها أن نابليون حينما استولى على مالطة وفي أثناء اتجاهه إلى مصر، طمأن السلطان المغربي عبر قنصله كييط حيث قال: «سيكون لهذا الحدث وقع خاص عند مولاي سليمان كبرهان على صداقتنا المتينة معه، لأن فرنسا سترسل له الأسرى المغاربة الموجودين في الجزيرة ومن ضمنهم امرأة من سلالة الأسرة الشريفة»[9]. بل ويتم طمأنة الجهاز القنصلي الفرنسي للمغرب بعد استيلائه على مصر، بتأمين مرور الحجاج المغاربة القاصدين مكة عن طريق الإسكندرية أو القاهرة. وقوله: «إنه يستطيع دائماً إرسال المغاربة إلى مصر سواء للتجارة أو لتأدية فريضة الحج إلى قلة»[10].
وهذا يؤكد أن المغرب حتى ذلك الوقت لم يكن يستشعر خطر فرنسا، أي حتى بعد احتلالها لمصر. غير أنه أدرك هذا الخطر حينما واجهه عمليًّا في الميدان على إثر صدمة كانت هي كبرى صدمات المغرب تجاه التفوق الفرنسي وبالتالي الأوروبي، الذي لفت المغرب إلى حجم الفجوة بينه وبين قوة فرنسا وأوروبا. وكان ذلك بسبب ما حصل في معركة «إيسلي» 1844 الشهيرة، التي شكّلت منعطفاً كبيراً، أعقبته بعد ذلك تجربة الرحلة في نمطها الثاني المصحوبة بالحسرة على الفارق الحضاري بين العالمين. يصف بروكلمان هذا الحدث قائلاً: «وفي 14 آب دارت رحي المعركة في وادي إيسلي، أحد روافد نهر تافنا، بين الفرنسيين والجيش المراكشي وكانت عدته 65 ألف رجل تحت قيادة ابن السلطان، ولم يكن تحت تصرفه أكثر من ستة آلاف مقاتل، ومع ذلك فقد استطاع أن يهزم هذه الجيوش الضعيفة السلاح، الفاقدة النظام»[11].
كان خطاب الرحلة بمثابة التعبير الميداني عن عمق هذه الفجوة الحضارية الآخذة في الاتساع. وكان المركب النفسي التاريخي هو الهزيمة العسكرية المنكرة. لذا، كان تركيز الرحلة دائماً على الجانب المتعلق بالتنظيم والإدارة والهيكلة... وقلما كان الاهتمام بالوقوف عند الظاهرة الاجتماعية والفلسفية للنهضة الأوروبية. وسوف أضرب أمثلة على هذه الرحلات «المغربية»، لكي نقف على الهواجس الحضارية التي تحكّمت بها وسبب اختلاف المزاج السياسي والفقهي للرّحالة المغربي في تعاطيه مع تفاصيل الرحلة لا سيما الباريسية منها.
* خصائص الرحلة المغربية
يزعم سعيد بنسعيد العلوي مؤرخاً للرحلة المغربية أن لدينا في الخزانة المغربية محققاً ومخطوطاً عشرة نماذج، لعلها هي الأهم من كل الرسائل والكتب التي أُلِّفت في هذا المجال، إن لم تكن هي جميع ما لدينا. وهذا القول على أهميته لا يحجب الظّن بوجود ما يفوقها ما دام الاستقراء التام لم يقع ولم يُدّعَ من قبل ولا من بعد. وإن كان اهتمام الباحث بهذا المفصل الثري من التراث المغربي الحديث نموذجاً مميزاً ومفيداً. فمن خلال إدراج عناوين الرحلة المغربية إلى الديار الأوروبية، نكتشف أنها كانت من نمط الرحلات السفارية:
- الإكسير في فكاك الأسير لمحمد بن عثمان المكناسي (1779 - 1780) زمن الرحلة).
- البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر لمحمد بن عثمان المكناسي نفسه (1781 - 1782).
- رحلة الصفار (محمد بن عبد الله) (1845 - 1846).
- الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية لمحمد الطاهر الفاسي (1860).
- تحفة الملك العزيز بمملكة باريز لإدريس العمراوي (1908).
- التحفة السنيّة للحضرة الحسنيّة بالمملكة الإسبنيولية لأحمد الكردودي (1884).
- إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار لإدريس الجعايدي (1876).
- رحلة الغسال للحسن الغسال (1902).
- حديقة التعريس في بعض وصف ضخامة باريس لعبد الله الفاسي (1909).
- الرحلة الأوروبية لمحمد الحجوي (1919).
تتوزع الرحلة المغربية إلى آفاق مختلفة منها ما هو شرقي ومنها ما هو غربي. فبينما كانت الرحلة إلى أوروبا سفارية كانت الرحلة إلى المشرق علمية. والغالب على الرحلة المشرقية هو الرحلة الحجازية التي كانت تتم لغاية طلب العلم ونيل الإجازات والحج. وهذه الرحلة المشرقية لا تهمنا هنا. لأن الغاية تتعلق بخطاب رحلة تتمحور حول النهضة والتقدم. فهو خطاب سياسي وفلسفي ونهضوي أكثر مما هو إنشاء أدبي ينجز في العادة للتسلية والإمتاع. في الرحلات من النمط الثاني، تحتل «باريس» عند الرّحالة مكانة مميزة. يصفها الرحالة المغربي وصفاً يقرب من وصف الطهطاوي، وأحياناً يتوسع في بعض المعالم أكثر من الطهطاوي. لكننا مع ذلك لا نكاد نقف عند الطهطاوي على مثالب هذه المدينة وقوفنا على مثالبها عند الرحالة المغربي. وليس بعيداً أن بعضهم التقط عيّنة من نقد الطهطاوي لبعض مظاهر المدنية الفرنجية وتوسع فيه أبعد مما فعل هذا الأخير الذي بلغ به الإعجاب بنهضة الفرنجة ما جعله يسرف في التمجيد كما يسرف في هجاء المحلّي إلى درجة الوقوع من حيث لا يشعر في خطاب عنصري كما مرّ معنا. لكن مع بعض الرحالة المغاربة نقف على الوجهين مع. وحتى في عزّ الإعجاب يظل خطاب الهوية حاضراً حضوراً مكثّفاً. أذكّر بأن الأسباب الموضوعية لذلك تتجلى في أنّ صدمة الحداثة في الديار المصرية سابقة منذ الغزو النابليوني لمصر. وليس المطلوب حينئذ من الرحالة السفاري المغربي أن ينطلق من موقع الإحساس بهذا الغلب الحداثي حيث لا يزال المغرب بلداً يحسب له حساب في الدوائر الأوروبية حتى أن نابليون نفسه كان يهدّئ اللهجة مع المغرب في اللحظة نفسها التي غزا فيها مصر. ولا يرجع الأمر بالتأكيد إلى عوامل أخرى ما دام الرحّالة المغربي كان أكبر مقاماً من الناحية العلمية والفقهية وكذا الخبروية من الطهطاوي نفسه كما ذكرنا حينما همّ بالرحلة الباريسية. وقد ضربنا أمثلة من أمثال الحجوي الثعالبي وهو عالم مجتهد فضلاً عن وظائفه في الدولة إذ تولّى مناصب عديدة في الدولة منها وظيفة نيابة الصدارة العظمى في وزارة العلوم والمعارف فضلاً عن رسائله الاستشارية وخطابه التنظيري الذي عالج كل معضلات الدولة والإدارة والاجتماع والفكر والوعي.. أي ليس السبب في هذا التميّز هو الخبرة والمكانة العلمية والوظيفة السياسية أو الإدارية التي هي من رجحان الرحالة المغربي، بل السبب العارض على اختلاف التجربتين التاريخيتين وما كان يمليهما الوضع على اختيارات المغاربة الذين لم تتمكّن منهم صدمة الحداثة تمكّنها من الديار المصرية. وهذا سنذكره في الأمثلة التالية من خلال بعض من هذه النماذج الرّحلوية. ومن الجدير القول: إن ثقل المهمات الرسمية والوظائف السفارية كانت في حدّ ذاتها مانعة للرحّالة المغاربة من أن يكونوا أكثر احتكاكاً وتجرّداً من الطهطاوي. لقد سافر الطهطاوي إلى الديار الباريسية وهو عالم ومثقف صاحب وظيفة دينية تقتصر على مرافقة البعثة الطلابية، لكن الرحالة المغربي حينما يسافر إلى الديار الفرنسية يلزم نفسه بالكثير من قواعد البروتوكول وهو يجر وراءه هيبة الدولة والسلطان، فلا يتواضع لأي سلطة في تلك الديار حتى لو تعلّق الأمر بسلطة الحداثة نفسها.
* الرحلة السفارية وانهيار هيبة المغرب
لا يخفى أن الوضع في بلاد المغرب كان حتى معركة إيسلي 1844م، إلى حدّ ما طبيعيًّا. فالمغرب لا يزال يحتفظ بهيبته وطريقته في التعامل من الأقطار الأوروبية ظلت طريقة موسومة بالتعالي، والاستهتار، وربما كان هذا خطأ لم يكن يستحضر صيرورة الاستقواء الأوروبي لكن المعركة كانت منعطفاً كبيراً، نتج عنه إحساس دراماتيكي بالهزيمة. كانت 1848م هي السنة التي سيبدأ فيه المغرب استئناف حركة سفارية على خلفية مجموعة من التنازلات مكّنت فرنسا من السيطرة والتغلغل في المغرب بصورة ملفتة للنظر. وكانت إسبانيا أيضاً قد استغلت هذه الهزيمة لتستولي على الجزر الجعفرية. ما يؤكد أن هذه الهزيمة شكّلت اللحظة المفصلية لذهاب هيبة المغرب، وهو ما عبّر عنه الناصري صاحب «الاسقصا» بالقول: «ووقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب، واستطال النصاري بها، وانكسر المسلمون انكساراً لم يعهد لهم مثله، وكثرت الحمايات، ونشأ عن ذلك ضرر كبير، نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة».[12]
وللوقوف على عينات من تلك الرحلة، ومعرفة أذواق أصحابها وهواجسهم السياسية والثقافية والدينية، ما علينا إلاّ الإنصات لبعضهم من خلال النماذج التالية:
محمد ابن عثمان المكناسي
لعب هذا السفير المغربي دوراً أساسيًّا عبر رحلتين، إحداهما لإسبانيا والأخرى لمالطا ونابولي، بهدف مهمة محدّدة، ألا وهي التفاوض حول الأسرى. لذا لا غرابة أن نجد عنوان الرحلتين معاً يخصّان مهمة واحدة الأولى: الإكسير في فك الأسير. والثانية: البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر. كان الفارق الزمني بين الرحلتين عاماً واحداً. رجع من الأولى في 1780م وانطلق إلى الثانية في 1781م. وكانت مدة مكثه في الأولى والثانية سنة كاملة. يدل هذا على أن ابن عثمان نجح في مهمته الأولى حتى أصبح محل ثقة السلطان، وكدبلوماسي ماهر في تدبير ملف الأسرى. ولم يكن الملف المذكور محصوراً في حدود التفاوض على الأسرى المغاربة نظراً لاستقلالية المغرب حينئذ عن باقي الإمبراطورية العثمانية. بل كانت هذه المهمة تتعدى إلى التفاوض حول عموم الأسرى المسلمين في شتى البقاع الإسلامية لا سيما أولئك الذين أهملتهم السياسة التفاوضية التركية التي عادة ما كانت تستبدل الأسرى الأتراك بأسرى العدو ولا تشغل نفسها بالتفاوض من أجل الأسرى من غير الأتراك. لعب المغرب يومها دوراً أساسيًّا في عملية فك الأسرى، حتى أن بعضاً من هؤلاء الأسرى بعث رسائل إلى المغرب، وانطلق المغرب للتفاوض حولهم لاسيما وأنه انزعج من موقف الحاكم التركي في الجزائر الذي كان يفدي فقط الأسرى الأتراك ويترك باقي المسلمين. مع أن «بيده من أسرى النصارى ما يفدي بهم هؤلاء ويظل لديه مزيد» بتعبير المكناسي[13].
إن رحلة ابن عثمان، موسومة بالفخر والاعتزاز بقوة المغرب والإسلام وأيضاً الاندهاش بالآخر في حدود مدنيته إلى حد الإعجاب، وكذلك النفور من بعض طباعه إلى حد الهجاء. جاء عرضه للرحلة واضحاً وصريحاً حتى أنه لم يكن ليخفي موقفه من مباهجها أو مثالبها. ليس في وصف ابن عثمان انبهار فقط وليس فيه هجاء فقط. لكن يبدو فيه الكثير من عوامل الاعتزاز بالذات. فالذّات هنا هي المدار في كل ما يصفه رفضاً أو قبولاً. فالمقبول هو ما يفيد المغرب والمرفوض هو ما يضره من هذه المدنية. ليست أوروبا هي المعيار، بل المعيار هنا مجرد ومتعالٍ يقع في صلب تراثنا وديننا وتاريخنا. وعلى أساس هذا المعيار يتم القبول والرفض لمعالم المدنية الأوروبية. يتجلى الانبهار بالعمارة والتنظيم وما شابه إلى حد الإعجاب وأحياناً الدهشة التي يعبر عنها: «وأما ما بها من الخيرات، فحدث عن البحر ولا حرج: فالفواكه موجودة فيها في غير إبَّانها، حتى تجتمع فاكهة السنتين معاً»[14].
ليس الأمر اعتباطيًّا ولا محاولة لتركيز الانبهار على عوامل طبيعية لا يد للمهارة الإنسانية فيها، بل الأمر يتعلق بتطور فن الزراعة. لأن «لهذا الجنس خبرة كبيرة بالفلاحة وتربية الأشجار». إن مسألة الإعجاب بالمظاهر الأوروبية، تحدّث عنه باقي الرحالة المغاربة بشكل مدهش جدًّا. وهذا الإعجاب المعبر عنه يتكرر في محطات مختلفة إذ يقول:
- «وشاهدنا من العجب في تلك الدار ما لا يمكن وصفه من أنواع التصاوير والبناءات والحيوانات التي تخيّل للناظر كأنها قائمة بالذات، ومن آلات الطرب والرقص ما لا يكيّف».
- في وصفه دار الطاغية «خزانة كبيرة موضوع فيها الغرائب».
- في وصف غرس وحدائق إشبيلية القريبة من القصر «ففيها من العجائب ما يقصر عن وصفه اللسان».
- في وصف نابولي: «الحاصل، هذه المدينة من عجائب الدنيا، لا تنقضي عجائبها ولو أقام الإنسان سنين فيما لا يُحصي عجائبها ولا يستوفيها»...[15].
الهجاء لا يفارق الإعجاب
لا يتعلق الأمر بتفوّق في التجرّد الموضوعي عند وصف الآخر. مثل هذا نجد له فصولاً ومواضيع كثيرة عند الرحالة ابن عثمان. غير أن هذا التردد بين الإعجاب والهجاء مقصود وتربوي وأيضاً يعكس إرادة لاستنهاض الأنا من تحت ركام هذا الانحطاط الحضاري الذي أصابها. من هنا موقف الاعتزاز والنظرة الدونية والهجاء لبعض مظاهر هذه المدينة. لم يحجب الإعجاب تلك الصورة المقززة التي نقلها الرحالة ابن عثمان في كتابه، بل إنه ينظر إلى الآخر نظرة دونية وأيضاً يقف موقف نفور من بعض مظاهر تلك المدينة. وتظهر هذه النظرة الاستعلائية عند ابن عثمان كلما تعلق الأمر بالموقف الديني من السلوك المدني الأوروبي. إنها نظرة تقليدية للفقيه المسلم من عموم الكفار. ولهذا كلّما تحدث الرحالة عن بلدة من هذه البلدان أردفها بالقول تحسراً: «أعادها الله أرض السلام». بل حتى لمّا كان يذكر ملك تلك البلاد، لا يسميه باسمه. على الأقل كما تفرض أعراف اللّياقة الدبلوماسية الحديثة. بل كان يسميه بالطاغية حتى لو أقر له ببعض المكارم. ومثل ذلك تحسره على كل الآثار الإسلامية في أوروبا. يذكر مثلاً ما حدث لبعض المنشآت الإسلامية هناك: «إلا أن الكفار الساكنين بالصومعة المذكورة قد أفسدوا داخلها بالبول والقذرات حتى لا يمكن للإنسان أن يطلع إليها إلا ممسكا أنفه من شدة النتن. طهر الله منهم البلاد وجعلهم فيئاً وغنيمة للعباد»[16].
الآخر والموقف من ثقافته ودينه
يتناول ابن عثمان وضع الراهبات ومسألة العزلة والانقطاع عن الزواج وما شابه بالكثير من النقد والهجاء. وهو هنا يعكس موقف قيمي وديني وثقافي لا يختلف عن الجمهور المغربي حينئذ. وقد لا يكلف نفسه نقد الظاهرة بتأملات نظرية، بل يحاكمها ويسلّط عليها أكثر أشكال الهجاء، ببساطة تؤكد أن الرحالة هنا مسكون بشيء واحد، ألا وهو مواقع قوة الآخر. تلك القوة التي لا يجب أن نقرأها في كل مظاهر عمرانه، بل إن لها تجليات في مجالات ومهارات وأذواق خاصة دون ما نراه في عوارضها ذات الصلة بخصوص عوائده الثقافية والدينية. فبقدر ما تمارس تلك المظاهر من حالة تسلط على ذهنية الرحالة بمقدار ما يسلّط انتقاده اللاذع وتفوّقه الديني والقيمي على هذه المدنية. يقول منتقداً أوضاع الرهبنة: «وشأن هؤلاء الراهبات في عزلتهن مناكر معتكفات عليهن، قد جالوا من المساحقة في مجال مع إبليس حيثما جال، واستغنوا بذلك عن الرجال». أما البابا، نظراً لكونه يحل لهم الحرام ويحرم عليهم الحلال فإنه «فإذا مات البابا كبكب في الجحيم وتجرع الحميم»[17].
إن مظاهر الفسوق والانحراف مظاهر بادية استوقفت الرحالة السفير ابن عثمان. لكن ملاحظته كما هو شأن الكثير من الرحالة المغاربة كانت قاسية. أقسى من موقف الطهطاوي الذي حاول أن يتفهم بعضاً من هذا السلوك، ويعدّله بسلوك أحسن. فإن ابن عثمان يقف عند الغيرة ولا يميز ولا يجزّئ كما فعل الطهطاوي؛ بل عبّر عن موقفه بصراحة: «فتجد الرجل جالساً وامرأته أو بنته ترقص مع أجنبي ويناجي بعضهم بعضاً خفاءً، ولا حياء؛ وكلام الناظرين يذهب جفاء ولا يبالي أحد بذلك، مع ما هو معلوم فيهم وشائع في بلادهم من الفسق والزنا، ويعرف ذلك بعضهم في بعض، ومع ذلك فلا يبالون بشيء: فقد جبلوا على عدم الغيرة قبحهم الله وطهر البلاد منهم»[18].
هناك ما يلفت في سلوك الرحالة المغربي، لا سيما المنتمي إلى سلك البعثة الدبلوماسية أي السياسي ألا وهي النظرة الاستنكارية والاستعلائية. لا يزال الرحالة المغربي مائلاً إلى نمط الرحلة عند بن بطوطة حتى بعد إدراكه نمط الرحلة الطهطاوية. فالاستعلائية حاضرة هنا حتى في ذكر ملكهم وحاكمهم. فهو لا يسميه إلا «الطاغية» كما ذكرنا:
- «وقد بالغ هذا الطاغية في إكرامنا وتعظيمنا».
- «لعلمهم أنه يستجلبون بذلك إليهم خاطر طاغيتهم».
- «فقدّم إلينا الكدش الذي بعث الطاغية لركوبنا».
- «عادة الطاغية فيمن يرد عليه من وفود الملوك أن يضيفه ثلاثة أيام ونحن من شدة أعنائه بسيدنا ومولانا أمير المؤمنين أكرم مثوانا وأحسن ضيافتنا اثني عشر يوماً التي قبل الملاقاة»[19].
- «إن رؤساء مالطة شرذمة من بني ملاقطة مجتمعون.. الذين لهم في إذاية المسلمين تحديق..»[20]
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار
يجب أن نذكّر بأن رحلة ابن عثمان هي نموذج لرحلة مبكرة ساد فيها الاعتزاز بالقوة والمجد.. النظرة الاستعلائية لم تزل قائمة. ولم يكن الأمر يتعلق برحلة في مناخ الهزيمة كالتي حصلت عند هزيمة إسلي. لكن الوضع سيختلف عندما يتعلق الأمر برحلات لاحقة. فمع رحلة محمد الصفار أو العمراوي أو من جاء بعدهما نجد ملامح الإحساس بالفارق، والحسرة الشديدة على تفوق الفرنجة على العالم الإسلامي عموماً والمغرب خصوصاً. وكما ذكرنا، كان لهزيمة معركة إسلي تأثير كبير فيما بعدها من سنوات. ورحلة محمد الصفار الأخيرة حدثت بعد الهزيمة بسنة واحدة فقط، أي سنة 1845م، حيث حصلت الهزيمة سنة 1844م. بالتأكيد لن تقف على الإحساس نفسه ومصدر القوة نفسها. حتى مع كونها رحلة سفارية شأنها شأن رحلة ابن عثمان مثلاً. وحتى حينما يطَّلع رحّالة مغربي على رحلة رفاعة الطهطاوي، فإنه بعد إيسلي سيستوعب مضامينها النهضوية أكثر مما حصل قبل ذلك. إذن لا شك في أن للظرفية والشرط الموضوعي مدخلية في وتيرة الوعي بهذا الفارق الحضاري وبالمهام المطلوب إنجازها على صعيد النهضة.
كان سبب رحلة الصفار إلى الديار الفرنسية قراراً من السلطان عبد الرحمن. وكان قد تقرّر بعث عبد القادر أشعاش عامله على تطوان للرحلة إلى فرنسا. وحينئذ طلب منه اختيار «عالم يقيم أمر الدين من صلاة وقراءة»[21]. إنها نفسها وضعية رفاعة الطهطاوي إلى حدّ ما. إلا أن رحلة الصفار جاءت في سياق وفد دبلوماسي. وقد تميّز الصفار بالنباهة والذكاء والبحث. حتى كتب عنه بوميي Peaumier إلى دوشاستو De Chasteau يقول: «إن الفقيه.. مشغول طوال الوقت. إن لديه موهبة عقلية نادر، وهو بصدد إنجاز بحث حقيقي، فقد كتب أشياء كثيرة»[22].
في رحلة الصفار نجد تشابهاً وتقارباً بينها وبين رحلة رفاعة الطهطاوي. من ناحية أولى، نجد أنها على الرغم من أنها تدخل في جنس الرحلة السفارية، إلا أن وظيفة الصفار كانت هي نفسها وظيفة الطهطاوي في البعثة، كما مرّ معنا. أي وظيفة مرافق أو مرشد ديني في البعثة. وكان الصفار مثله مثل الطهطاوي (عالم دين)، ذاك من الأزهر وهذا من القرويين. وقطعاً يبدو أن الصفار اطَّلع على تخليص الإبريز في تلخيص باريس لرفاعة الطهطاوي، لأن ثمة عبارات وأوصافاً متقاربة جدًّا بينهما. وأحياناً نلمس تأثيراً في الأسلوب يصل إلى حدّ النقل الحرفي، كقوله مثلاً عن باريس: «اعلم أن هذه المدينة هي قاعدة بلاد الفرنسيس وأم حواضرهم وكرسي مملكتهم ومسكن عظمائهم..»[23]. أو كقوله في وصف التياتروا: «ويزعمون أن في ذلك تأديباً للنفوس وتهذيباً للأخلاق وراحة للقلب والبدن..» [24]. أو كحديثه عن القوانين التي سنها لويس الثامن عشر بخصوص حرية التعبير والنشر في الكازيطات[25].. أو وصفه أهل باريس بذكاء العقل وحدة الذهن ودقة النظر[26]. أو وقوفه عند استقباحهم للتشبيب والغزل بغير النساء[27]. وغيرها من الأوصاف التي رأيناها عند الطهطاوي وهي هنا عند الصفار حاضرة حرفيًّا. هنا يمكننا القول: إن رحلة الطهطاوي شكّلت خريطة طريق للمحاولة الوصفية للصفار وبعض الرحّالة المغاربة من بعده بتفاوت ملحوظ. وفضلاً عن ذلك يعد كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، مخصصاً لوصف باريز. في حين أن الصفار خصّص من كتابه فصلاً كاملاً (الفصل الثالث) في ذكر مدينة باريز، وهو الفصل الأكبر من بين 6 فصول أخرى.
جاءت الرحلتان معاً في ظروف الاحتلال والهزيمة والإحساس بالتحسر إزاء مظاهر التفوق والغلب الحضاري الأوروبي. فحينما يصف الصفار جغرافيًّا المعمور من الأرض ويصل إلى ذكر الجزائر يقول: «ثم وهران والجزائر وسائر ما كان من عمالتها، وهي الآن بيد الفرنسيس»[28]. وحينما يصف إحدى الاستعراضات العسكرية:
«ومضوا وتركوا قلوبنا تشتعل ناراً، لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن ترتبيهم ووضعهم كل شيء في محلة، مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله. فما أحزمهم وما أشد استعدادهم، وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم، وما أقدرهم على الحروب ما أقواهم على عدوهم، لا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين، إنما ذلك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب واتِّباع قوانينهم التي هي عندهم لا تنخرم»[29].
إن الصفار هنا يستحضر ضعف الجيش المغربي في هزيمة «إسلي» حيث سنجد كثيرين يعزون ضعف الجيش إزاء الفرنسيس بل حتى في مواجهة الثورات الداخلية، راجع إلى هشاشة البنية التحتية والقوانين التي لا تُرغِّب الجيش في القتال وبتعبير آخر إلى الفساد.. لذلك نجد الصفار يصف الجيش الفرنسي ويقف على سر قوّته وبذله المهجة نظراً لما يحيط به من حسن تدبير هذا القطاع الحساس والحيوي إداريًّا وقانونيًّا وتربويًّا: «إن صدرت من واحد منهم زلة أجروا عليه شريعتها، سواء كان رفيعاً أو وضيعاً، وإن ظهرت لأحد منهم مزية أرقوا درجتها، لا يطمع أحد منهم في غير ما هو له، ولا يخاف على ما في يده أن ينزع منه، فعلى ذلك يبذلون مهجهم في المعارك، ويلقون بأنفسهم في المهالك، ولو رأيت سيرتهم وقوانينهم لتعجبت منها غاية العجب، مع كفرهم وانمحاء نور الإيمان من قلوبهم، وما راءٍ كمن سمع... إلخ. الله أعد للإسلام عزته وجدّد للدين نصرته بجاه النبي صلى الله عليه وسلم» [30].
لم تترك رحلة الصفار شيئاً من معالم المدينة إلا وصفته وصفاً دقيقاً. لكن يظل هناك فارق، هو أن الصفار لم يطَّلع على التراث الفلسفي والأدبي الفرنسي بالشكل الذي رأيناه مع الطهطاوي. لعل السبب هو أن الرحلة سفارية فيها الكثير من الانشغال والالتزام، وأيضاً لأنها لم تدم أكثر من سنة واحدة. نجد مع رحلة الصفار انضباطاً وأيضاً وصفاً موضوعيًّا يقترب من طريقة الطهطاوي وهذه المرة لا يكون مع الطاغية بل يتحدث لغة دبلوماسية أهدأ من تلك التي وجدناها عند السفير ابن عثمان. فهو يصفه بـ: «عظيم جنس الفرنسيس». يقصد بذلك الملك لويس فليب (1830 - 1848) وعادة ما يكنّيه بالسلطان. وهو تعبير مخزني. وصف الصفار على الطريقة نفسها باريس، وأحياناً يعيد ذكر المعلومات نفسها؛ عدد السكان الذي بلغ حينئذ المليون الواحد، العمارة الحسنة وحسن التدبير والنظام.. كما يشير إلى خلو البلاد من السكن العشوائي: «واعلم أن هؤلاء القوم ليس عندهم في مساكنهم أخصاص ولا خيم ولا نوايل وإنما يعرفون بالبناء لا غير»[31].
كما يذكر ما لهم من صفات الجدية في العمل والإتقان والتعمير.. فلا وجود لأرض غير مغروسة ولا يوجد عندهم خراب أو أرض موات «حتى أن الأرض التي ترابها رديء ينقلون لها التراب الجيد من أرض أخرى». فالغراسة فن شائع هناك. وعملية الغرس في كل مكان حتى في حافات الأنهار ومجاري الخنادق بالمعالجة والعناية... وثمة قوانين لتنظيم الزراعة وأيضاً لحفظ حقوق الفلاحيين.. ويذكر من عجائبهم أنهم كانوا يُحلّون ماء البحر حتى يصير عذباً شروباً.
ويحضر السؤال الديني في متون الرحلة حضوراً معياريًّا مكثفاً، يؤكد أن سؤال النهضة في المتن الرحلوي يفرض جملة من الأسئلة التي تستدعي الخطاب الديني. إننا في لحظات تاريخية مثّل فيها الخطاب الديني المصدر الأكثر أهمية لمنظومة القيم الجماعية وعلاقات السلطة. فالرجوع إليه بين الفينة والأخرى، يشكّل ضرورة وظيفية كما يعكس بنية اجتماعية وسياسية وثقافية معيشة. وفي مثال رحلة الصفار نجد حضوراً يماثل حضوره في رحلة الطهطاوي ويعكس الهاجس ذاته، مع شيء من التموقف العقدي والديني، يتجاوز مستوى التعارض الديني التحديثي إلى مستوى التعارض الديني الديني. يتحدث عن الدين، ويتحدث عن الصليب العظيم المنصوب وصورة الشخص المصلوب التي أفزعتهم، لزعمهم أنه المسيح، وهو يؤكد أنه معبودهم، الذي ينزل عيسى ليكسره تكذيباً لهم وإبطالاً لدين النصرانية، ويعبر عن موقفه الصارم من هذا الاعتقاد قائلاً: «وما زادتنا رؤية ذلك إلا تبصّراً بكفرهم واطِّلاعاً على إبطال معتقدهم وسخافة عقولهم، فالحمد لله الذي هدانا للملة الحنيفية»[32].
كما يحضر الهاجس الثقافي حضوراً تعكسه لحظات الوصف التي تعكس أذواق ورغائب الرحّالة نفسه. وعلى طريقة الطهطاوي يصف الصفار مظاهر باريس الثقافية، ويستوقفه التياتروا، فيظهر له أن ذلك ليس مجمعاً للحرافيش والأوباش، بل يحضرها الأكابر وأهل المروءة. وذلك يحدث راحة في القلب والبدن يعينه على العمل مجدداً. كما يتحدث عن الإعلام وأنه سبب اطِّلاعهم على الأخبار، حيث ربما يكون ما فيه كذباً أكثر مما هو صدق، ولكنها تتضمن أخباراً تتشوف النفس للعلم بها ولها عندهم فوائد، كالاطلاع على الحوادث والأخبار[33]. الثقافة إذن ليست ترفاً بل مطلوبة للترويح على النفس لاستئناف العمل. فأهمية العمل قصوى في تلك الديار. ما جعل العمران الباريسي والأوروبي عموماً غاية في الترقي والتقدم. هنا يتحدّث الصفار عن العمل وانعدام البطالة وتنظيم الوقت ومشاركة المرأة في العمل وتحديداً في التجارة. ويبرز الصفار الجوانب الأكثر إيجابية في ثقافتهم وسلوكهم وطباعهم وتقاليدهم. وعموماً ليس هناك شيء زائد عما ذكره الطهطاوي. فعوائدهم تميل للمرح والخفة والمروءة (الدنيوية) وأيضاً الآداب والتخلّق في الحديث والاحترام والتسامح «ولا يتعرضون للغريب من دينهم أو من المسلمين بسوء ولا ينادي عليه صبيانهم ولا يؤذونهم كما يسمع على غيرهم من بعض أجناس النصارى»... وهذه العوائد يتعلمونها ويقرؤونها ويدونونها في الكتب لتكون لهم بذلك المزيد على غيرهم. وقد اختصوا من بين أجناس سائر النصارى بالأدب والحضارة والمروءة الدنيوية[34].
إن رحلة الصفار هي صورة أخرى تعزز رحلة الطهطاوي وتؤكد نتائجها. فتجد أن الصفار في مواضع مختلفة يرى أن كل مظاهر المدنية الباريسية ليست غريبة عن الإسلام. بل إنه بطريق غير مباشرة يسعى لذكر نظائرها في ثقافتنا، عبر أمثلة شعرية، كأنه بصدد منحها تأصيلاً إسلاميًّا. فتجده في وصف التياتروا مثلاً وما فيه من المرح والنكتة والمزاح ما يريح القلب والبدن، الضروري لاستئناف الشغل والنشاط، يقول:
أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلّله بشيء من المزح[35]
ثم يعطي من «السنة» قصصاً عن ضحك الصحابة ومزحهم ويعطي أمثلة عن بعضهم وما عُرفوا به. كما يعلّق بعد ذكر أمر الكازيطات والإعلام، أن بعضهم ينشر رأيه في الإعلام ليروا إن كان سداداً فيتّبعونه حتى وإن كان صاحبه حقيراً، فيقول:
لا تحقرن الرأي وهو موافـق وجه الصواب إذا أتى من ناقص
فالـدر وهو أجل شيء يُقتنى ما حـطَّ قيمته هو أن الغائص
وعن شغفهم بالعمل وذمهم الفقر يعلق:
ذريـني للغـنى أسـعى فإني رأيت النـاس شـرهم الفقـير
وأحقرهم وأهـونهم عليـه وإن كان لـه نسـب وخـير
وعن ذوق نسائهم في لبس السواد ومواتاته لهن أكثر من غيره من الألوان، بأبيات وأيضاً بقصة وقول الدرامي:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا أردت بزاهد متعبد
هكذا دواليك، أراد الصفار من خلال هذه التعقيبات والتعليقات إثبات نوع من التأصيل لهذه العادات والأعراف بما يؤكد فكرة التعارف. وليؤكد أننا أولى بها وأن وجودها مهم في قيام النهضة والحضارة. وهي خطة كل رواد النهضة ورموز الإصلاح، غالباً ما يسعون لتدريب العقل المحلي على القبول بثقافة الآخر حينما تكون محل شراكة واتفاق حتى لا تحول هواجس الخواف من الآخر دون الأخذ بأسباب الرقي الاجتماعي والأخلاقي. لقد رام هذا الجيل أن يخفف من غلواء هذا الخواف عكس ما حصل في زمن الانتكاس حينما أصبح المطلوب تعميق العزلة الشعورية وتصعيد الخلاف إلى أقصاه كما لو لم يكن في نهضتهم ما يصلح لنهضتنا. لم يبرح الصفار في رحلته أسلوب الطهطاوي في الوصف والتعليق. وتتجلّى قيمة ما قدمه في تعزيز وتزكية وتأكيد المضمون التربوي الذي انتهجه صاحب تخليص الإبريز في تلخيص باريز.
الرحّالة محمد عبد السلام السائح (1922) م
هناك نموذج آخر لرحّالة مغربي سفاري، هو محمد بن عبد السلام السائح. ابتعثه السلطان يوسف بن الحسن برفقه محمد الهواري قاضي الثغر الطنجي سابقاً لحضور تشييد الجمهورية الفرنساوية للمعهد الإسلامي بباريز تذكاراً لمشاركة المسلمين الإفريقيين لها في الحرب الكبرى (فبراير 1922).
مثال آخر عن موقف موسوم بالاستعلاء والاعتزاز بالنفس والاحتفاء بالهوية. فالوصف وإن عبّر عن بعض من الإعجاب والدهشة، إلا أنه استقبح الكثير من الثقافة الأوروبية تماماً كما فعل السفير ابن عثمان أو الصفار وغيرهما. فالإعجاب يبلغ مداه إلى حد يبعث على نظم الشعر وصفاً لهذه الديار. وقد طاف وجال واطَّلع على كل رحّالة ذهب إلى تلك الديار. مع محمد عبد السلام تجوب الشوارع وتشاهد العمارة وتستمتع بالحدائق وتزور المتاحف وتركب التياتروا. فهو يصف ما رأى. لكنه يحسن وصفه ويزيدك بعضاً من الخيال. لقد غرق في وصف بعض من تلك الملاهي حتى قال: «ولهم نشيد ورنين، وللموسقيين تطريب وتلحين إلى مطارحة ذكران ونسوان، وأزيا ما أنزل الله بها من سلطان، حتى خُيِّل لي أني في عرس بلقيس في عالم الأباليس. مما كان أجرى المقام بقول أبي الطيب:
ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان[36]
الأدب الساخر في الإنشاء الرحلوي لابن عبد السلام يضفي الكثير من الملاحة على الوصف. والإعجاب يأخذ هنا حقه كما يأخذ الهجاء حقه أيضاً. إنه الرّحالة الذي طاف هذه الأماكن بزيّه المغربي التقليدي المثير للغرابة عند الفرنسيين. لا سيما وقد كان يجول جولات خاصة خارج الترتيبات التي يقتضيها البروتوكول. وكثيراً ما سعى هو نفسه لافتراض انطباعات الآخر من لباسه وذوقه وتقبل دهشتهم بالكثير من روح النكتة والدعابة. فاللباس المغربي وإن أصبح مألوفاً عند البارسيين إلاّ أنه في بوردو ليس كذلك. لذا ما فتئ يحدّق فيه الجميع تعجّباً بالغريب، معجبين بشكل الرحالة ويغالبهم الضحك؛ في حين «أنا أعجب من حسنهن ورقتهن وتثنيهن:
كـلانا ناظـر عجباً ولكـن عجبت بحسنها وتفت بشكلي[37]
إن محمد بن عبد السلام السائح له نصيب من المرح والنكتة والسخرية، لكنه يبدي أيضاً موقفاً صارماً تجاه الكثير من مظاهر الفساد والانحلال ويحكم الوازع الديني بصورة صارمة، فلا تنقصه الموضوعية في الوصف عندما يتعلق الأمر بأمر مهم. فهو يعترف بحبهم للعلم وصبرهم وجلدهم على اقتنائه، «وقد تجسمت في مخترعاتهم ومصنوعاتهم علومهم الغزيرة المتنوعة تجسماً بادياً للعيان»[38].
ويستحضر المقارنة، وعينه على المغرب وهو يقول:
«إن المغرب اليوم غيره بالأمس، وإن ما يرسم في برنامج مستقبله لمومئ إلى مرامٍ بعيدة، وإن ما نشاهد به من امتزاج العناصر لأمارة على نفخ روح جديدة وإن النظر في العواقب ثمرة العقل، وإنه يمثل أمام عيني مستقبل ليست الحياة فيه بالتفوقات ولا بالأماني التي هي أحلام المستيقظ، وإنما هي نتيجة واحدة قد اندرجت فيها كل المحدقات، وبمقصد واحد انطوت فيه كل الوسائل ألا وهو العلم»[39].
من هنا تبلورت الحاجة إلى بذل الوسع في طلب العلم بحب وتعليم الأبناء. لأن به يتعزز جانبهم ويحفظون كيانهم ودينهم ولغتهم وشرفهم وأخلاقهم وأحوالهم: «العلم يحرس الدين والدين هو جامعة الأمة وحياتها». كما أن العلم هو السبب في الرقي ومتى أُهمل كان ذلك سبباً كافياً للانحطاط. ومن هنا «إذا رأيت من أمة تقصيراً في سبيله فأنذر بانقراضها، أو تساهلاً في العمل بمقتضاه فهيئ في بطن التاريخ زاوية لانقضاضها (...) وكل سلطة دونه ضعيفة النفوذ..»[40].
ومما يبدو عياناً من حديث الرحالة أنه أدرك سر تفوق أوروبا على المسلمين بالعلم، وليس إلا العلم. لذا نجده يقف موقفاً جديًّا لا هزليًّا وهو يصف كل مظاهر العمران التي كان سببها تقدم العلم وازدهاره. غير أنه لا يعير أهمية فائقة لأشكال الثقافة الأخرى التي يصفها كما يصف أحوال الطبيعة. فيمدح تارة في الوصف ويمزح ويهجو تارة أخرى ويكثر من النكات ولا يبالي. وأحياناً يستقبح ويزدري ويسخر، ما يعني أنه يميز بين ما هو ضروري للنهوض وما هو من العوائد التي لا يضر فوتها. كما أنه لا يشعر مع وجود الفارق في المدنية، بأي نوع من الهزيمة النفسية. إنه يدرك بخلاف غيره أن ما ينقص (المغاربة) الذين اتهموا بالجهل من قبل المستعمر الذي وجدها مطية للاستعمار، أو من قبل بعض المصلحين، يرى أن المغاربة -وهو يعني باقي المسلمين أيضاً- لهم كفاية من العلم والعلوم ولا ينقصهم إلا العناية بعلوم العصر. وهذا تطلّب ممكن إحرازه بالإرادة والتغلّب على عوائق التّرقي. وقد حرّض ابن عبد السلام السائح المغاربة على النهوض واكتساب العلم دون اندهاش من الفارق الكبير بيننا وبينهم. يقول: «أفلا يجعلون لأنفسهم سهماً منها، فنصبح وقد شاركنا أمم الأرض في علومهم وفضلناهم بمعلوماتنا الأخرى، ونكون قد نفينا هذه الوصمة عن جانبنا وجلونا عن هذا البهق غرة محاسننا؛ لا تقل: إن الأمر يحتاج ويحتاج، لأن له طرقاً تفضي إليه وأسباباً تدني منه. ورأيي أن كل ما كانت له وسائل، فهو سهل التناول»[41].
نشدان النهضة في نظر السائح ليس له شرط سوى إرادة النهوض. فليس من مائز يميزنا عن باقي الأمم. بل من شأننا أن نتقدم على غيرنا ونخرج من هذا المأزق الحضاري. ولذا ما فتئ يذكّر بمحامد تاريخ المسلمين العلمي، والتذكير بمجد القرويين التي كانت في القرن التاسع بمثابة الكلية الوحيدة لتلقي العلوم السامية. حتى كان الطلبة يتقاطرون إليها من أنحاء أوروبا وإنكلترا فضلاً عن بلاد العرب[42].
ندرك من خلال ذلك أن للسائح وعياً عميقاً خالصاً من شوائب الشعور بالهزيمة. بل إنك تراه يصف دون أن يعتريه شك في أن ما في يد أوروبا هو سهل المنال لو تحققت الإرادة. وبأن المسلمين لا ينقصهم إلا العلم. بل ولا يعير أهمية لثقافتهم لاسيما عندما يتعلق الأمر بمظاهر السلوك. فهو يقدّره لكنه لا يراه ضروريًّا. بل وأحياناً يسخر منه أيما سخرية. ويكفي مثالاً على ذلك القصة والتعليق الذي ذكرهما رحالتنا، ولنقارنهما بنظرته للعلم وترقب المستقبل؛ يقول:
«وفي أثناء تجولي، مررت بكنيسة فأغراني حب الوقوف على الآثار بالدخول إليها والتجول فيها لولا أنه كدر صفوي بها شخص من جملة الواردين مصفر اللون قد تقبض جلده وتقنسر كأنه جسم مصبر. قال لي: لا بد أن تنزع العمامة عن رأسك إعظاماً وإجلالاً كما ترى الناس ينزعون قبعاتهم. فأبيت ذلك فكرر وأكثر من الطنطنة بتلك الرطانة. فقلت له ليس العمامة كالقبعة التي يمكن نزعها بكل سهولة وبدون أدنى آفة تلحقها. وكيف الحال إذا اختل نظامها واختلطت أطرافها وانسلت قلنسوتها؟ ومن لنا في هذه الديار بحجام حاذق ينسقها ويرجعها بقلبه وأين هو؟ ومن لنا به؟! وأنا قد تنكبت الدخول هنا إلى الحلاق مع حاجتي إلى الحلاق، خشية أن تطغى حديدته على الأذقان فنصبح كالمردان. ونصير محل الإعجاب عند الرجوع والإياب، ثم قلت لرفيقي: ما لنا والدخول إلى هذه الكنائس التي لا تحترم فيها العمائم والقلانس ويجحد فيها تعب الحجام؟ فإلى الأمام، إلى الأمام»[43].
ثم يردف قوله بملاحظة يبدي فيها حجم الفارق الثقافي بين العالمين، ويظهر تفهماً كبيراً للاختلاف. وهو ما يؤكد أن السائح كان ساخراً من الفوارق الثقافية لكنه على إدراك بأسبابها ومتفهماً لمضامينها. فيعود ويؤشر إلى ما يقرّب الآخر إلى الأفهام ويعرض ما اختلف من ثقافته على قاعدة التعارف، فيقول:
«يعتبر الإفرنج رفع القبعة عن الرأس من مظاهر التعظيم بخلاف أعرافنا: فإن نزع العمامة بمحضر الملأ ربما عُدَّ من خوارم المروءة، ونزعها عن رأس الغير ضرب من الإهانة. وبنى الفقهاء على هذا العرف -الذي يعد تحكيمه في جملة أصول الفقه- أن نزع العمامة من أنواع التأديب والتعزير. يقول أبو الضياء خليل في «مختصره» الجليل:
وعزوة الإمام لمعصية الله والحق أدهى حبساً ولوماً وبالإقامة ونزع العمامة وضرب بسوط أو غيره»[44].
مع محمد الحجوي الثعالبي في رحلته الأوروبية
تعتبر رحلة الحجوي إلى باريس من نوع الرحلة السفارية. فقد رحل برفقه الوزير الأكبر وتسعة أعضاء آخرين منهم الحجوي بوصفه نائباً عن فاس عاصمة العلم وعن المغرب الشرقي لحضور عيدي الجمهورية الفرنسية وصلح النصر. وتحيل رحلة الحجوي إلى البلاد الأوروبية على نموذج قريب من تجربة الطهطاوي في عمق الإحساس بسؤال النهضة وأولويته إزاء سؤال الهوية. وهي تجربة تتميّز بنباهة صاحبها حيث جمع بين الوظيفة السياسية والبحث العلمي والنشاط التجاري. إنها تجربة فاعل سياسي إصلاحي، لم يقف عطاؤه عند سرد أحوال الرحلة، بل لا يزال يقدم من المشاريع الإصلاحية ما طال بالاهتمام والمعالجة كافة القطاعات. وعلى الرغم من أن باريس كانت هي إحدى أهم مدائن الإفرنج التي تعرّض لها رحّالتنا بالوصف الدقيق وأظهر فيها من الإعجاب الكثير، إلا أنها لم تكن هي أفق الرحلة الحجوية الوحيد. لقد أضاف إليها أفقاً آخر هو مدينة لندن. لم تنحصر مقارنته بين المدنية الأوروبية والمغرب، بل قام بنوع آخر من المقارنة الدقيقة بين باريس ولندن. وهو ما لم نلحظه عند الطهطاوي الذي ارتقت باريس عنده إلى رئيس كرسي بلاد الفرنجة. مع الحجوي هناك ما يميز باريس عن باقي البلاد الأوروبية. لكن هناك في لندن ما تميّزت به هذه المدنية عن باريس نفسها. إن رحلة هذا الأخير الموسومة بـ(الرحلة الأوروبية) تنقسم إلى قسمين: رحلة سفارية، دبلوماسية إلى فرنسا أعقبتها رحلة حرة بقصد السياحة والتجارة إلى لندن. و «الرحلة الأوروبية» ليس كتاب الرحلة الوحيد عند الحجوي، وإن كان هو الأهم، بل للحجوي كتب وصف فيها بلداناً كان قد سافر إليها من قبل، كالجزائر وتونس والأندلس والحجاز. فلا زالت مكتبته تتضمن كتباً رحلوية نظير: مسامرة الزائر برحلة الجزائر (ذكرها عبد السلام بن سودة في دليل مؤرخ المغرب الأقصى)، وحديث الأنس عن تونس (ذُكر في المرجع نفسه)، والرحلة الأندلسية الفيشية والرحلة الحجازية المصرية. بالجملة إنها -حسب عبدالله سعف وألان روسيون مترجما الرحلة- أول رحلة مغربية قدّمت باللغة العربية صورة إيجابية في مجملها عن فرنسا. وطبعاً يضاف إليها رحلة الصفار. ومما زاد رحلة الحجوي قوّة أنه قبل أن يكتب رحلاته كان قد اطَّلع على رحلات سابقة واهتم بها. كما لخّص بعضها الآخر. كذلك فعل مع رحلة ابن عثمان المكناسي من خلال كتابه «أنس السائر في اختصار البدر السافر». ويعتقد الحجوي أن هذه الرحلة كان بإمكانها أن تفيد الملوك والكبراء لو أنها كتبت بأدب سهل. بل «ولحصلت بسببها نهضة مغربية تكون سبباً في إخراج المغرب من بحر ظلماته إلى نهار المدينة». فالرحلة إذن ليست أدباً للتسلية بل هي رسالة للنهضة والإصلاح. كذلك فهمها الحجوي، ولهذا السبب تحديداً طوّر الكتابة الرحلوية لتخدم هذا الغرض وتتكيف مع النشاط الإصلاحي. فسعى إلى خط رحلته بهدف تقديم وصف يساعد على التمدين وإحداث النهضة. ولهذا الغرض أيضاً، حاول قدر الوسع تجنّب الإنشاء الصعب في الوصف وتيسير العبارة لتحصل الفائدة. كما تجنب القسوة في وصف المظاهر السلبية في أوروبا والتركيز على الفوارق المدنية. لأن المقصود من وصف الرحلة ليس التسلية والاستئناس، بقدر ما هو تحريض المغرب على سلوك طريق المدنية. ولهذا السبب نجده يتحدث بقسوة عن ظلمات المغرب وعن الانحطاط وكل ذلك، لأنه كان يريد الإصلاح ويحمل همه بلا هوادة. ذلك لأن المصلح لا يجامل الفساد ولا يهادن التخلف. فقد تراجع معه سؤال الأنا والهوية وبرز بشكل كبير سؤال النهضة والترقي. فعبّر عن مقصوده من الرحلة التي وافقت 1919م بأمر من الملك يوسف حينما قال: «ورأيت أن أقيد ما شهدت في رحلتي هذه، لإفادة أهل المغرب الذين لم يرحلوا ولم يعرفوا شيئاً من أحوال أوروبا»[45].
لم يكن الحجوي يتكلم الفرنسية. كما أنه لم يتيسر له -كما هو حال الطهطاوي- تعلمها هناك. لكنه رأى أن رحلته استطاعت أن تقدم ما هو مفيد، «لا سيما لعلمائنا الذين لو يرحلون لتلك الديار ويتصورونها بصورة لا تنطبق على الحقيقة عند الاختبار»[46].
ونلاحظ أن الدهشة والإدهاش أحياناً يكونان استراتيجيتين مقصودتين في أدب الرحلة. لذا لم تخل رحلة الحجوي من التعبير بلسان العجائبي والغرائبي. لكنه أيضاً كمصلح واقعي جدًّا، كان يعيد المتلقي إلى الواقع، ويتدارك الدهشة بأسلوب التحليل والتعليل. ولتبرئة ذهنه من دخيل الإعجاب المخل بموضوعية الوصف، أوضح حال معاينته وصدق مدعاه فيما وصف من أحوال العمران الباريزي قائلاً: «ولا تظن أنها (أي مناظر البر الجميلة بعد اجتياز البحر) ظهرت لنا جميلة في أعيننا إذ ذاك لشوقنا للبر وأنها ليست جميلة في الواقع، بل أحقق لك أن ميد البحر ذهب عني وصفا ذهني وفكري فيمكنك أن تعتمد على قولي هذه المرة. فأحقق ذلك أن الشاطئ الذي نراه هو شاطئ جميل للغاية، بل لا يكاد يوجد أجمل منه».
إذن، نحن أمام رحّالة يتكلف جهداً مضاعفاً لإثارة الإعجاب لدى المتلقي. على الرغم من أن لغة التعجب والدهشة لم تفارق الرحلة الحجوية، مادامت الدهشة مقصودة في فن الرحلة، لكنه لا ينسى واقعيته. فهو يعود ليقول، وهذا ما يدل على نباهته وعقلانيته: «وإن عجائب أوروبا كثيرة، وهي في الحقيقة ليست عجائب أوروبا بل عجائب العالم وغرائب اخترعات عقل البشر النبيه المتيقظ. ولولا أن التزمت ألَّا أخبر إلا بما رأيت لقصصت عليكم من عجائب أوروبا أو العالم، وخصوصاً في لندن وباريس اللذين هما ينبوع الحكمة الأوروبية»[47].
الحسرة والمقارنة
مثل سائر الرحالة، كانت الحسرة ماثلة في تجربة الحجوي. وتكاد تلازم تعليقه على كل ما كان موضع دهشة من رقي الفرنجة. ودائماً، بالتصريح أو التضمين، يؤكد أن المسلمين هم أولى بهذه المدنية من غيرهم. وتحصيل ذلك يرقي إلى الواجب. وأحياناً يظهر ذلك من خلال عقد مقارنة بين حال المدنية الفرنجية وحال المغرب وعموم بلاد المسلمين. الحسرة عند الحجوي ليست أمراً عابراً، ولا مسألة اندهاش. بل هي حسرة مصلح يعيش قلق سؤال النهضة ويتحسس أزمة مجتمعه ويرفض التسامح مع تخلفه. وكل أعماله الأخرى تصب بشكل مباشر في عملية الإصلاح. نستطيع معرفة حقيقة الحسرة وأبعادها كلما اطلعنا على كتابات ورسائل الحجوي وتجربته السياسية والإدارية في مجال الإصلاح. نجد هنا وهناك موقفاً يفيض حسرة ويتفجّر ألماً. ولكنه لا يقف عند الحسرة بمجرد إبداء الدهشة. بل لقد قدّم برامج إصلاحية عملية أثناء توليه لمناصب إدارية في الدولة المخزنية. ومن نظائر هذا الألم والتحسّر، مقارنته بين عدد سكان بغداد في العصر العباسي (من حيث كون عدد نفوسها مليونين) وعدد ساكنة باريس (المليون) مثل هذا ذكره الطهطاوي في تخليص الإبريز، وإعطاء أهمية للمواصلات وأيضاً الاتصالات (التلفون). ولا تقتصر المقارنة عند الحجوي بين باريس والمغرب، بل يصدق الأمر على عموم البلاد العربية والإسلامية. وقد بلغ هاجس المقارنة أوجه من خلال النص التالي:
«وقد دخلنا لغرفة فقالوا: هذه فيها الكتب التي ألفها علماء أمريكا، وهي تعدل بمكتبة القرويين ومراكش معاً إلا أنها مطبعية، فقلت في نفسي: هذه أمة جاءت في الزمن الأخير ألف علماؤها هذا العدد من الكتب وما استقلت إلا منذ نحو مائة وخمسين سنة، فما أعظم مدارك البشر إذا كان عائشاً في جو صافٍ يستنشق فيه هواء الحرية المطلق ويتغذى بلبان العلو والتهذيب، ليت شعري، ماذا ألفه علماء المسلمين في هذه المدة؟!»[48].
تبرز هنا أهمية النظام الذي تخضع له كل فعالية المجتمع ومؤسساته وسلوكه، من النظام السياسي إلى نظام المرور. وقد أشار الحجوي إلى ما كان يميز نظام لندرة لندن في نظام المرور بخلاف ما كان من أمر هذا النظام بباريز. فهنا السير يكون من اليسار. ومع اختلاف النظامين إلا أن لا أحد يصدم الآخر. وقد بدا له أن هذا النظام شبيه بما في أعراف السير في مدينة فاس لولا أن الالتزام بهذا النظام كثيراً ما ينتهي إلى اصطدام. وهنا يحمد الله أنه ليس لدينا عربات سيارة وإلاّ حصلت الكارثة. إن هذا النظام يتجلّى في عموم المؤسسات الأوروبية. ولا ننسى أن حسن التنظيم الاجتماعي هو من أبرز ما أثار ولع الرحّالة العربي الحديث في الديار الأوروبية. ويعزو له كل هذا الرقي الذي ميّز هذه الديار ووسم تلك الأمة. وهنا لا مجال لقياس ذلك بما لدينا. ففي وصف الحجوي للمجلس البلدي عبّر عن حسرة هذا الفارق الكبير. فمثلاً أشار إلى أهمية التراتبيات والأخلاق المهنية واختيار الرجل المناسب حسب الكفاءة، وذلك حينما يقول: «فتجد شيخ المدينة مثلاً أزيد أدباً ولطفاً ممن تحته في الرتبة إذ لا يرشح للمناصب الكبار عندهم إلا الكبار وليس المراد الكبار الجثة أو العمامة أو، أو، بل الكبار قلباً وعلماً وأخلاقاً»[49].
وهاهنا لا مجال لقياس ذلك بحال مدينتنا. فالحجوي يلخص وصفه للمجلس البلدي بكلام غاية في الوصف: «وأجمع لك وصف هذا المجلس بأن نقول: إنه على قدر عظمة المدينة ورفاهيتها وارتقائها فلا تقسه ببلدية فاس مثلاً»[50].
لا يزال هذا الفارق كبيراً حتى يومنا هذا بين طريقتين في التنظيم والتدبير. ما يجعل حسرة الحجوي وأمثاله من المصلحين تتوارث جيلاً عن جيل. فالمجالس البلدية في ربوعنا هي بالأحرى أوكار للفساد المهني وفشل في تدبير الشأن العام. كما أن المناصب والتراتبيات ظلّت موسومة بالطغيان والتفرد والانتهازية. والعلم والكفاءة هما آخر المعايير التي ينتخب المرشحون على أساسها. فهي غنائم حرب انتخابوية وليست تنافساً شريفاً للنهوض بمسؤولية الارتقاء بالأمة إلى منازل أفضل. وليس غريباً أن يؤدي الاهتمام بالصناعة والعلم إلى ذلك المستوى من التدبير والتنظيم في باريز لا بل في عموم فرنسا وأوروبا. فطلب العلم والمعارف هنا يصل حد الهيام (الهيام بالعلم). والتعليم هنا إجباري. يتحدث الحجوي عن مرحلة لم يكن التعليم في بلادنا إجباريًّا. مع أن التراجع في التنمية وشيوع ثقافة التخلف من شأنها أن تعطل التعليم حتى لو أصبح إجباريًّا، كما تؤكده مؤشرات العزوف والهجرة والانقطاع لأسباب وظروف تتعلق بغياب البنيات التحتية لنظام تربوي فاعل ومنتج ومبني على خطة نهضوية حقيقية. لكن مع ذلك كان وضع البلاد الأوروبية أفضل من حال بلداننا، بسبب الأمية وعدم التمدرس. فبذلك «القدر ارتقى مجموع الأمة من الحضيض الذي وقع فيه مجموع الأمم غير المتمدنة التي لا يعرف غالب أفرادها كتابه ولا أدباً ولا حساباً ولا.. ولا كأهل المغرب الأقصى مثلاً»[51].
من جهة أخرى، وإن كانت نبرة الحجوي قاسية على تخلف المجال المحلي، وإن كان يتعمد أن يستفز بقسوته تلك العقل المغربي وبالتالي العربي والإسلامي للأخذ بأسباب الرقي، إلا أنه كان يحرص على ضرب من الموضوعية في وصف عادات الفرنجة وذكر بعض مثالبهم. لكنه لا يقف عندها أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى مصلح يهمه أن يركز على عوامل التقدم التي هي هدف الخطاب الإصلاحي الرحلوي. فالمثالب المذكورة تتعلق بانزلاقات أخلاقية بعضها مركوز في أخلاق القوم وثقافتهم وليس بالضرورة أنه مقوم لنهضة القوم. فحينما تطرق إلى باريز كمدينة مدهشة يقصدها الناس والكبراء من كل بلاد العالم، أثار انتباهه ما يخرق هذا الإعجاب من انحرافات يقول عنها: «غير أنها كعبة الطائفين للتهتك لا التنسك، وركن التفرج والتفسخ لا التبرك، ومسرح التفنن في الأزياء الكثيرة والزخارف الوفيرة والرفه البارع والتهتك بدون وازع وترتيل آيات الملذات والإشباع وإيقاع المثالث والمثاني والأخذ بالقلوب والأسماع»[52].
إن الحجوي يدرك أن لا شيء قابل للنقد هنا إلا ما يتعلق بالأخلاق. وهذه من نواقص تلك المدنية. وإذا كان المصلح لا يرى ما يمنع من إقامة مقارنة بين أوروبا والبلاد الإسلامية فيما يتصل بالعمران والمدهش من صنائعها ومحاسن نظمها الاجتماعية، فإنه لا يمنع من إقامة مقارنة بين أخلاقهم وأخلاقنا؛ «إلا أن المنتقد له أن ينتقد أموراً هناك لا تناسب الأخلاق العالية، كالتكلم بكلمات بذيئة سفيهة، والرجل هناك يحضر ومعه أخوه وولده ووالده، وفيه ما يهيج شبق النفس للخنا وارتكاب الفواحش وغيرها»[53].
فالنقد هنا أخلاقي لا شيء آخر. والحكم على انحرافات المدنية الأوروبية يتم من منطلق الأخلاق المعيارية المشتركة والمدركة في الفطرة المركوزة في وجدان البشر. وقد استمر هذا النقد الأخلاقي للأدب الفرنسي إلى مراحل متأخرة كما أثار حفيظة أدباء كبار نذكر على سبيل المثال ليون تولستوي. وهو ما يعزز مشروعية نقد الحجوي لتلك الفنون الفرنساوية وعوائد ذلك الاجتماع في زمن مبكر. إلا أن الحجوي لا ينظر إلى هذا التهتك والفساد نظرة غير تعليلية. بل إنه تمثل موقفاً سوسيولوجيًّا خلدونيًّا يرى أن الفساد يساوق الرّفه والترف وما شابه. فتلك «نتيجة الرفه الزائد، والحرية المطلقة، وعدم التمسك بأهداب الدين ولاسيما النساء؛ فقد خلعن ربقة الحياء وتبرجن تبرّجاً لا يتصور فوقه إلا سفاد الحيوانات في الطرق جهاراً. إلى هذا الحد وصلوا أو قربوا منه، وفعلوا مقدماته جهراً فهذا شيء أفسد الأخلاق ولا تتحسنه الأذواق، ولا يقول به طبع ولا عقل ولا شرع. زد على هذا كثرة البذخ والترف والتظاهر بالغنى، والفخر بالمال المؤدي إلى إضاعته (...) وهذا شيء طبيعي في الكون والشرف، كل أمة ما زاد ترفها إلا وزال شرفها، ولله في خلقه شؤون»[54].
هي الرفاهية المفرطة غير المقيّدة بوازع أخلاقي أو ديني. وضريبة التفنن اللاّمشروط أو لنقل التكامل في هذا النمط من الاستهلاك. وذلك لأنهم «تفننوا في كل شيء، وبلغوا النهاية في التمدن والرفاهية»[55].
إنه على الرغم من ملاحظاته على أخلاق القوم، لم يجعل الفساد الأخلاقي لهذه المدنية مانعاً من نشدان الرقي. فليس الفساد الأخلاقي معلولاً لهذه المدينة بالضرورة بل هو حصيلة الرفه وأخلاقيات التدبير والمعاش والإسراف. ومع ذلك يقرؤه قراءة سوسيو-اقتصادية ترتكز على السوسيولوجيا الخلدونية كما لا يخفى. من هنا بدا له أن النقد الأخلاقي لهذه المدنية مشروعاً. ولكن لا يجب أن يحجب ذلك عنّا جوانبها المهمة. ليس في حدود الصنائع العلمية البحتة فحسب، بل في العلوم الإنسانية والتدبير والإدارة والتفنّن في لعلم والمعرفة والآداب أيضاً. إنه يطلب ضرباً من المدنية المهذّبة. فالفساد في تلك المدنية يرجع إلى أسباب رئيسية ثلاثة: الرفه الزائد والحرية المطلقة وعدم التمسك بالدين. وحينئذ يمكننا اعتبار ذلك وجهاً من وجوه النقد المبكر للغرب في حدود النقد الأخلاقي للحداثة. المسألة لا تتعلق بالحرية التي كانت قبلة للمصلحين يومها، بل الأمر يتعلق بالتحلل من كل قيد أخلاقي أو ديني معياري. فالحرية هناك تقوم على معيار أصالة الفعل الفردي دون قيد أو شرط وليس لها حدود إلا فيما يهدد حرية الآخر المنطلقة والمتحللة من كل القيم. وأيضاً هناك مشكلة الرفه، لا سيما حينما يصبح ثقافةً ويغرق الاجتماع في دورة من الاستهلاك الهوسي. إننا نقف من خلال الحجوي يومها على مسألة هي محل اختلاف بين المصلحين المسلمين والغرب: آفة النظام الليبرالي، والنظام الرأسمالي. وهي اليوم موضوع للنقد السّوسيو-اقتصادي للمجتمع الغربي، ما فتئ أن قام به نقاد غربيون في مراحل لاحقة.
المقارنات بين مدائن أوروبا
تبدو الرحلة الأوروبية في وصف المدهش من مدنية باريس نموذجاً ليس إلاّ، باعتبارها ليست مقصورة على باريس، بل هي مدنية شاملة لكامل أوروبا: «ثم هذا الذي قررنا ليس خاصًّا بأهل باريز، بل عموم فرانسا يوجد فيها هذا القدر من التعلم، بل عموم أوروبا تقريباً»[56].
ولقد أقام الحجوي مقارنة بين باريس ولندن وأدرك تفاصيل حياة المدنيتين. ومع أنه لا يرى فارقاً مهمًّا بينهما من حيث أصل المدنية إلا أنه احتفظ ببعض الملاحظات ذات الطابع التفصيلي. لقد حافظ الحجوي على موضوعيته في هذه المقارنة، وإن كانت ظروف الرحلتين إلى باريس وإلى لندن قد تركتا آثارهما على الوصف. ففي الأولى كان مبعوثاً رسميًّا في بعثة دبلوماسية. أما في الثانية فهو سائح تاجر، واجه من مشاكل وأثقال البيروقراطية الإنجليزية ما جعله يشمئز منها اشمئزازاً. لكن مع ذلك هجا بقدر ما امتدح من عوائدها وأخلاقها كما تراءت له في يوميات الرحلة. فقد لفت انتباه رحّالتنا إلى إحدى مميزات لندن عن باريس، بما يوافق عوائد بلادنا الإسلامية حينما يقول: «ومما يلاحظ هنا في الفرق بين أخلاق الإنجليز والإفرنسيين أن هذا المركب فيه محل خصوصي لركوب النسوة، وهو أحسن محمل في المركب، لا يدخله الرجال أصلاً. وكذلك يوجد هذا في السكة الحديدية الإنجليزية، وهذا ما رأيناه قط عند الإفرنسيين، وإنما نسمع بوجوده عند العثمانيين، وما أحق هذه العادة أن تكون عند عامة المسلمين، برًّا وبحراً، لما عندهم من الحجاب والحشمة»[57]. الإنجليز في نظر الحجوي هم أكثر ميلاً للحياء والحشمة من الفرنساوية. فمن «المعلوم في أخلاق الإنجليز شدة الحشمة والوقار، وقلة التهتك في نسائهم ورجالهم باعتبار الغالب فيهم بخلاف غيرهم»[58].
كما يعيب على الإنجليز بيروقراطيتهم. متحسراً على الأيام التي ضاعت في «الذّهاب إلى محل البوليس وانتظار النوبة والجواب على الأسئلة والطبع على الورق ونحو هذا مما لا فائدة فيه لنا ولا لهم»[59]. وقد انزعج رحّالتنا أيما انزعاج من هذه البروقراطية والطريقة والطباع الإنجليزية التي رآها على خلاف مع طبائع الفرنسيين. فالبوليس الإنجليزي يبدو عبوساً وابتسامته تأتي بعد ذلك باردة، في حين أن الفرنساوية هم أرفق بالمسافرين وأبشر من الإنجليز. وربما تعجب أحدنا وهو يجد رحّالة مغربي مثل الحجوي ينتقد البيروقراطية الإنجليزية في ذلك الزمان من انحطاط مدنيتنا. لكن لا ننسى أن الأمر طبيعي، ما دامت رحلته إلى باريس هي ديبلوماسية، في حين أن الثانية هي سياحية عادية. ففي الأولى كان معفياً من الاحتكاك بمثل تلك الدوائر وفي غنى عن تدبير تلك الأوراق وحينئذ من المؤكد أن الفرنسوية فضلاً عن خبرتهم بالطبائع المغربية يومها أكثر من غيرهم من الديار الأوروبية الأخرى، كانوا أبشر من الإنجليز في استقبال الحجوي المبعوث الرسمي وليس التاجر الذي لا يعرفه الإنجليز. ومع ذلك لا بد من القول: إن الحجوي في مقارنته بين البلدين لم يقف فقط عند هذه النقطة، بل عدّد جوانب أخرى من الفوارق بينهما. ففي المجال الصناعي، نجده، وإن تحدث عن جمال ورقي الفن الفرنسي والعمارة الفرنسية يعترف بقوة الحركة والصناعة الإنجليزية. وعموماً فإنه أفرد فصلاً أو مطلباً من رحلته لذكر أنواع المفاضلة بين لندرة (لندن) وباريز مسّت وصف الهياكل والبنى التحتية وما شابه وكذا الأخلاق والعادات. فمثلاً تراءى له الإنجليز في التجارة صادقين. وعدم خداعهم في التجارة سبب لانتشار تجارتهم في العالم. ولا يفوت الحجوي التمييز بين صدقهم وعدم خداعهم في التجارة ومسألة الصدق في السياسة. لنقل بتعبير أكثر دقّة وحداثة: إنهم أكثر تشبتاً بالأخلاق المهنية في التجارة من غيرهم. لذا فإن الإنجليز «مشهورون في العالم بمعرفة طرق التجارة وأساليب الاستيراد والإصدار، وأعانهم على ذلك ما عليه تربيتهم من صدق المعاملة والقناعة بالربح القليل ليباع العدد الكثير. ويقولون: القليل في الكثير كثير، وهذه قاعدة مطردة ضرورية، فصدقهم في المعاملات الصدق التام الفائق في ذلك غيرهم هو الذي مهّد لهم الاستيلاء على معظم تجارة العالم، فالإنجليزي إذا سمّى لك الثمن فخذ أو اترك ولا تفاتحه في المهاودة، هذا خلق الكثير منهم أو الكل فيما سمعنا ممن طال مكثه بين ظهورهم الآماد الطويلة، مع صدق لهجتهم وعدم خداعهم في التجارة لا في السياسة، فحصلت للعالم بهم ثقة تامة أعانتهم على اتساع متاجرتهم مع أقطار العالم»[60].
يقول هذا رحّالة مغربي، يدرك ما يقوله. لأن الحجوي أيضاً هو رجل أعمال وتاجر. وله كتاب مخطوط في الخزانة الوطنية بالرباط يستعرض فيه جميع ممتلكاته. ليس طبعاً من باب أخلاقيات السياسي التاجر الذي يخشى أن يتهم تحت بند «من أين لك هذا»، بل هو ذكاء منه، لأن عادة السلطة المخزنية يومها وضع اليد على الكثير من ممتلكات رجالاتها. لقد كانت زيارته إلى لندن في الأصل زيارة تجارية. فهو لا يسلّم للإنجليز بالصدق في السياسة، لكنه يسلّم لهم بالصدق في الاقتصاد والتجارة. ويرى أن تلك قاعدة. ولعلها كانت مراكمة تجاربه التي أهّلته للعناية بالإصلاح الاقتصادي من خلال مشاريعه الإصلاحية في كتاباته ورسائله الكثيرة.
كذلك يعدّد من الفوارق بين مظاهر العمران الباريزي والإنجليزي ما يتصل بالخصوصيات الثقافية والعادات بين البلدين. فمن أخلاق الإنجليز مثلاً حب الرياضة البدنية وفاقوا فيها غيرهم. «نعم إن الفرنساوية اعتنوا بالأزهار فاستغنوا بالرياضة الفكرية عن البدنية وهي لا تغني»[61].
ولا ينسى أن يعقد مقارنة أخرى بين الإنجليز والفرنساوية وأيضاً المغاربة. وهذه المرّة في موضوع النظافة. إنه يرى أن المغاربة أنظف من الإنجليز. ومثاله على ذلك اعتماد المناديل والزيوف. فلا «تقل لي: إن المغاربة ليس لهم زيوف، إنا نجيبك بأن فقيرهم وحقيرهم له زيف واحد بعد الأكل، ولا بد عند المغاربة في غسل الأيدي بالصابون وتجفيفها في الزيف، وفي تلك نهاية النظافة وذلك مفقود عند غيرهم، لذلك جعلوا لكل آكل زيوفاً، أما الإنجليز فلا، نعم، في الأوطيلات العالية يعملون بعادة الإفرانسيس»[62].
وثمة أمر لفت انتباه رحّالتنا له صلة بالتعصب تجاه الآخر. وقد أرجع مسؤولية الاندهاش من المختلف إلى هذه النزعة. ما يؤكد أن في نصوص الرحّالة ما هو سابق لبيان معرّة التعصب الحائل دون التعارف. لقد تحدّث غير ما مرّة عن هذا الاندهاش المبالغ فيه من الاختلاف في عادات المأكل والملبس والمسلك في المسألة التي وجّهت له من قبل الجالية المغربية المقيمة بتلك الديار. «فما أشد تعصبهم، وما أحسن تسامح المسلمين الذين لا يعيبون على الغريب شيئاً»[63]. ومن هنا رأى الأمثل في أن يلبس المسلم لباس القوم لما يكون في بلادهم. ليس فقط لتجاوز الحرج، بل من أجل المصلحة وعدم فوتها وتجنب الخداع. هنا الحجوي البراغماتي الواقعي الذي يكيّف فتواه كفقيه بالمصلحة. ويشرح هذا الموقف من خلال جوابه عن السائل:
«إلا أنه لما وقف إزاءنا أول كلامه نظر إلى لباسنا المغربي قال: هل أنتم يهود، فقلنا، نعوذ بالله، بل مسلمون، فقال: سامحوني، التبس عليَّ الأمر، بهذا اللباس غير المنتظم الذي فيه بعض زيادات على البدن لا فائدة فيها، فقلت في نفسي: لهذا أفتى الشيخ محمد عبده بلبس البرنيطة في بلد الكفر، وكل من يلبس اللباس المخالف للزي الأوروبي في أوروبا فإنما يتعرض لمثل هذه الأسئلة ولضياع دريهماته (...) فإن كان تاجراً فذلك الخسران المبين في تجارته، ولا تظهر ثمرة دينية للبقاء في بلدهم بزي غير زيهم إلا إشهار الإنسان نفسه وجعل عرضه هدفاً للضحك والمسخرة والإهانة. فلباسهم كسلاح يدافع به المتلاعبون بدراهم الغرباء (...) ولا يتخلص الغريب منهم إلا بلباسهم ولسانهم. فإن كنت في بلدهم فالبس لباسهم وتعلّم لسانهم تأمن مكرهم»[64].
إذن، نحن في الرحلة الأوروبية أمام وصف يحاول أن يحافظ على موضوعيته. يوازن بين ذكر المحاسن والمثالب.. لكنه يحتفظ بالحسرة على تخلف المجال. بل أكثر من ذلك، يرى أن المدنية تقوم بالعلم والصبر والكدح وينتقد العقل الكسول ونزعة الملل. فالعقل الملول لن يتقدم ولن ينتج شيئاً. وقد استعرض حكايته مع رفاقه حينما كان بزيارة لإحدى المكتبات:
«ثم إن رفقائي ملوا كثيراً وضجروا من كثرة ما رأوه وأرادوا الخروج، فقلت لهم: ألستم طلبتم رؤية الكتب الخطية فنحن ننتظر وصول المكلف بها؛ عجباً لكم! ما حصل ملل لمن ألّف، أو كتب، أو طبع أو سفر أو ادخر أو بنى أو رصف أو جنس ولا لمن يرينا ويطلعنا! فلا أمل في ارتقاء من به داء الملل، فاطلل آفتنا العظمى وسبب من أسباب تأخرنا وتقدم غيرنا – إنا إذاً لمن العاجزين. ولو كنتم في ملهى ما مللتم»[65].
* تأثير خطاب الرحلة في عملية الإصلاح
إذا أخذنا عينات من تلك الرحلات التي تمت بإرادة السلطان، على شكل بعثات علمية أو سفارية، نجد أن تلك الأسئلة والصور التي نقلها الرحالة، انعكست في صورة ما في برامج وعملية التخطيط لمشاريع تحديث البلاد. فالطهطاوي نفسه يتحدّث حين الرجوع من باريس، عن تحقق أهداف الرحلة حينما يقول تحت عنوان (في رجوعنا من باريس إلى مصر): «من المعلوم أن نفس القارئ لهذه الرحلة تتطلع إلى معرفة نتيجة هذا السفر الذي صرف عليه ولي النعمة مصاريف لم تسبق لأحد من الملوك ولا سمع بها في التواريخ عند سائر الأمم (...) فكيف وإرسال ولي النعمة للأفندية إلى باريس قد نجح غاية النجاح وأثمر، حيث إن جلهم قد اكتسب رضاء صاحب السعادة، وسارع في المطلوب وعن ساعد الجد والاجتهاد شمر»[66].
ثم بعد وصفه للمكانة العلمية لعناصر البعثة الذين أصبحوا أطراً علمية وإدارية لمصر، يقول: «وأقول حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن والتعلم على منوال بلاد أوروبا، فهي وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة»[67].
وكان ذلك حال الحجوي الثعالبي أيضاً بعد الرحلة. إذ لم تقف محاولته في صميم كتابة الرحلة ولم تكتفِ بمحض الإخبار عن أحوال أوروبا ومدنيتها. بل إنه واصل العمل الإصلاحي من مستوى فكري وعلمي من خلال نشاطه العلمي المشهود وتأليفاته التي حملت مشاريع الإصلاح بجراءة. وأيضاً فعل ذلك من مستوى مسؤوليته داخل جهاز السلطة ومشاريع الإصلاح التي تقدم بها سواء إلى السلطان أو إلى الحماية قصد النهوض بالإصلاحات الضرورية. ويجب أن نذكّر أن الحجوي الثعالبي ممن تعامل ببراغماتية كبيرة مع الحماية التي تولّى مناصب ومسؤوليات مخزنية في ظلها. وقد كان هذا هو سبب عزوف المغاربة عن أخذ آرائه الإصلاحية المهمة مأخذ الجدّ. وقد كان من دأب المغاربة ألَّا يلتفتوا إلى أي مشروع ويجرحوا في أي جهة تعاملت مع الحماية ولا يجدون لها مبرراً. والحق أن الحجوي كان مصلحاً كبيراً حتى أن موقفه الإيجابي من الدور التحديثي الذي قامت به الحماية يجب فهمه على أنه رأي ظلّ مرفوضاً حتى الساعة. لم يكن الحجوي مفضلاً للاحتلال أو الحماية. فهو رجل وطني وحامل همّ إصلاحي كبير. غير أن اجتهاده السياسي لم يكن يُمنى باحترام. وقد زادت حرارة سنوات التحرر الوطني من إهمال تلك النصوص التي أقبرها أصحابها لمجرد أن كانوا يوماً ما متعاونين مع الحماية الفرنسية.
وسوف نقف على هذه التجربة في مناسبة أخرى، لنؤكد أن حسرة الحجوي لم تقف عند تأمل الفارق بين المغرب وأوروبا، بل كانت حسرته على كون مظاهر القابلية للاستعمار ظلت تتسع يوماً بعد يوم، مما جعله أكثر قسوة على الداخل وأكثر شدة في نقده. فهو كان ضد كل أشكال الفوضى والثورات التي جلبت الاستعمار إلى البلاد حينما أنهك جسم الدولة في حروب داخلية طاحنة، على الأقل كما يشير كتابه: انتحار المغرب بيد ثواره.
* تساؤلات لا بد منها
هذه عينات من نصوص الرحلة، بشقيها السفاري والاستكشافي. محكومتين بإكراهات لحظتين: الإحساس بالتفوق كما كان من أمر ابن عثمان – أو لحظة الإحساس بالفارق الحضاري بين مدنيتين، كما رأينا في الأمثلة التي أعقبت ذلك كرحلة الطهطاوي أو الحجوي. وقد يجد القارئ أنها نصوص تتقارب على مستوى الوصف وإبداء الدهشة أمام الرقي الحضاري والتفوق المدني لبلاد الفرنجة. وكلهم باح بانطباعه الموسوم يعمق هذا الاندهاش وقوة هذا الولع. وكلهم نظم أو تمثّل شعراً مدحاً لحال ترقّيهم وهجاءً لحال انحطاطنا. وكلهم امتدح باريس وغازلها غزل العروس. لكن في متن هذا الغزل، وهذا التصوير للمدهش، كانوا يعبرون عن التحسر، ويستدعون الفارق بين البلاد الإسلامية وأوروبا. كما أنهم حتى في لحظات الهزيمة والإصرار على تصوير المدهش في هذه المدنية، أدركوا أن لا سبب ينهض بهذه المدنية سوى العلم والتعلم. صحيح أن الوصف ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا ورصد فيها ذلك النصيب من المدهش والعجائبي. لكن في كل لحظة كان هناك توجه إلى روح النهضة وأسبابها. فالعلة هي العلم. لكن علة العلل هي إرادة العلم ومعرفة الطريق إليه.
بعد هذه الإطلالة على أهم نصوص الرحلة بمختلف تعبيراتها كان لابد أن نتساءل الأسئلة التالية:
كيف استطاع أدب الرحلة ابتداء من القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين أن يؤثر في عملية الإصلاح؟ وما هي معالم أثر الرحلة في برامج الإصلاح؟ ما هي مُعيقات تأثير الرحلة في ثقافة الجمهور، وهل أمكنها حقًّا أن تصل الجمهور؟ كيف نقيم وعي الرحالة في هذا العصر، وهل لازالت أسئلة الرحالة حية وأنها أسئلة لم تنجز أجوبتها حتى الآن؟ ما عدا ذلك لا ننسى أن الرحلة كانت بمثابة المحطة الأولى في قيام إصلاحات حتى لو لم تكن حققت حلم أولئك المصلحين، لكن تحديث البلاد على مستوى النظم الإدارية وإقرار الدستور والقوانين وهيكلة الاقتصاد والنظام التربوي والصناعة والجيش.. كلها محاولات أدخلت دول العالم الثالث ولو بصورة مبتسرة غير كاملة وأحياناً مشروطة إلى العالم الحديث! لم يبلغ هذا التأثير مبلغه ولم يحقق نموذجه المثالي. لذا وجب العودة إليه للوقوف عند الفارق الكبير بين ما كان ينشده هؤلاء الرحالة المصلحون، وما تم تحققه اليوم بصورة من الصور. لم يكن في وارد هؤلاء الرحالة ما سيطرأ من مستجدات على الصعيد الدولي والإقليمي والوطني. حيث مجرد التحديث لا يصنع القوة ولا يحفظ البلاد ولا يحفظ الدين. ليس الأمر في أن نتطور بأي شكل اتفق، بل علينا أن ندرك كيف نتطور من دون أن نقع في كوارث حقيقية. وهو ما لم يكن في وارد مصلح مثل الحجوي مثلاً، حيث راهن على الحماية لتحديث البلاد. وربما هو وأمثاله اعتبروا التحديث من غنائم عصر الاستعمار، بما في الأمر من مغالطات تاريخية، نستطيع فهمها اليوم أكثر من أي وقت مضى. لم ير هؤلاء الرحالة إلا مظاهر المدنية وحجم الفارق المهول. لكنهم لم يدركوا خطط المستعمر وطريقته في تدبير المستعمرات والمحميات على أساس الاستتباع وتخريب البنية الاقتصادية والاجتماعية والقيمية للمحلّي. باختصار لقد كان ينقصهم الحس الأيديولوجي والاستراتيجي؛ لذلك كانت قراءتهم للتحديات الخارجية مبسطة وساذجة وتخلو من التعليل. فالغالب على الرحلة، أنها استبعدت خطرين سوف يركز عليهما الإصلاحيون وتيار الجامعة الإسلامية، ألا وهما: الاستبداد والاستعمار. لقد ركّز الرحّالة على التخلف والانحطاط المدني. وهذا وجه من وجوه وصف الأزمة. لكنهم لم يدركوا علاقة وجدل الاستعمار والاستبداد في صناعة التخلف وجلب الاستعمار. إن ما قدمه هؤلاء الرحالة يصلح أن يكون المادة الوصفية الأولى لانبعاث الإصلاح والنهضة. إلاّ أنه لا يمثل كل شروط النهضة والإصلاح. نقول ابتداء: إن هذه النصوص الرحلوية لم يكتب لها أن تصل إلى الجمهور. فقد ظلت حبيسة دواوين السلطة أو حبيسة نخبة محددة. وذلك لأسباب منها: أنها شكّلت وثيقة للنخبة السياسية الحاكمة أو العلمية. لم يكن انتشارها مهمًّا، لغياب سياسة التشريك الجماهيري في مثل هذه القضايا. أكبر دليل على ذلك أنها ظلت مخطوطات لم تر النور إلاّ في السنوات الأخيرة. ومع أن الحجوي أكد بأن رحلته إنما لأجل إطلاع من لم يجرب الرحلة من المغاربة، إلا أنه لا يعني أن محاولته لقيت انتشاراً عند الجمهور. ثم لا ننسى أزمة القراءة وانتشار الأمية التي ذكرها الرحالة نفسه. فلم يوجد يومها وسائل للنشر كالكازيطات التي تحدث عنها كل الرحالة. وحتى مع وجودها لا وجود لتقاليد القراءة والتولع بالمعارف لغلبة الأمية. وحتى اليوم لم نحولها إلى نصوص تربوية نستدخلها برامجنا التعليمية لتربية الناشئة على قيم النهضة والتّرقّي. لا شك في أن وعي أولئك الرحالة كان متقدماً جدًّا بالمقارنة مع أغيارهم. فهم صفوة من كان يختارهم السلطان بتعبير الرحالة المغربي أو ولي النعمة بتعبير رفاعة الطهطاوي. ولا نزعم أنهم حتى في تركيزهم على مظاهر المدنية وعدم التطرق إلى صلب إشكالية الاستعمار والاستبداد، كعائق أساسي للتحديث وصانع التخلف، لا نزعم أنهم كانوا خائنين لقضيتهم. بل إن معالم التحسر ظلت بادية على مواقفهم ولسان حالهم: نحن أولى بهذا الإنجاز من أولئك الفرنجة! إن جزءاً كبيراً من التسطيح راجع إلى أن مخاطر الاستعمار. واستراتيجيته لم تكن معروفة كما هي الآن. فليس من المعقول أن نقيّم تلك الآراء بأثر رجعي. ربما ظنّ البعض لتبرير مواقف بعضهم أنها من ذكائهم المبكر. وربما من فرط وعيهم المتقدم على عصرهم فعلوا ما فعلوا.
وقد نجد اختلافاً في الوعي بين رحلة وأخرى. وقد نجد تفاوتاً في المدارك بين هذا الرحّالة أو ذاك. لكن مع كل ذلك ظل هناك وعي أساسي مشترك لا يزال بمنزلة جوهر الخطاب الرحلوي: العلم كسبب للنهضة. إننا نرى أن ما طالب به الرحالة وما خرج به من انطباعات ينقسم إلى قسمين:
الأول: يتعلق بالتحديث والعلم والعمل.
الثاني: يتعلق بمظاهر الثقافة والأخلاق المحلية للفرنجة.
وقد نجد الأمور قد تغيّرت اليوم. فما كان يراه هؤلاء كبيرة من الكبائر، حدث فيه تراجعات وتنازلات كبير. بل غدا من المسلمات وأحياناً من الضروريات. وبينما كان يركز بعض الرحالة من أمثال الحجوي على مسألة الزي واللباس، حتى أنه عاد ليجيب المقيمين المغاربة في لندن عن مسألة لبس البرنيطة وما شابه، حتى اعتبر لباس البرنيطة من دون ضرورة ومحبة فيها «ردة»، فإن مثل هذا الموقف تراجع ولم يعد مقبولاً. بل أصبح عنوان تطرف غير مهضوم وقاصر عن الاستيعاب اليوم.
كان علينا أن نتساءل عن كل هذه الأسئلة من هذا القبيل التي طرحت حينئذ وتم التراجع عنها، لندرك أن عدد الحواجز النفسية والثقافية وأيضاً الشروط التاريخية والحضارية كانت كفيلة بإزاحتها. وهذا الاقتصاد في الموانع، يقلل أيضاً من مستوى الممانعة السيكولوجية والثقافية تجاه الآخر. إن ثورة الاتصالات وغيرها مكّنت الشعوب الإسلامية المعاصرة من الوقوف على مستويات جديدة مدهشة. ولعل ما كان مدهشاً يومها في الغرب أصبح جزءا من حياتنا اليومية. هناك ثورات أخرى في أوروبا والعالم الحديث فاقت كل الثورات السابقة. وما أن نسعى حثيثاً للتكيف مع إكراهات الأولى حتى تنهمر إكراهات أخرى نتيجة قيام ثورة أشد من الأولى وأقوى. إذا كان الحجوي وأمثاله اندهشوا يومها لوجود الآلة الكاتبة وما شابه، فنحن اليوم أمام الثورة السبرنتيقية، وأمام مفهوم «البوصة» والعولمة وانتقال المعلومة بصورة بدت «الكازيطات» أمامها أشبه بحفريات تاريخية. إن العالم اليوم يعيش تخمة في المدهش. ولم يعد ثمة شيء يخفى. وكثير مما ينجز اليوم سبقه الخيال العلمي بسنوات حتى بات مركوزاً في الأذهان. وقد بات ما يتخيله المرء اليوم في حكم المنجز القريب لا في حكم الخيالي أو الإمكان المجمل. إن تركيز الرحالة على العلم كما رأينا هو مربط الفرس. ونحن اليوم تجاوزنا الصراع الأيديولوجي مع القوى الاستعمارية الخارجية. بل أصبح الصراع يتجه إلى «العلم». وهذا يعني أن الاستعمار يقبل ويتسامح في كل شيء، إلا أن تزاحمه الصناعة وتشاركه العلم. العلم لم يعد متاحاً في زمن نعيش فيه دورة صراع التفوق العلمي والممانعة ضد انتشاره. إذن أهم ما في الرحلة، مما لم ينجز بعد، ويجب التركيز عليه، هو الدخول في رهان التقدم العلمي. وهذا هو شكل الصراع المستقبلي بين العالم الإسلامي والغرب. فلا زلنا في العالم العربي على الأقل نندهش بعوارض المدنية الأوروبية ولا نكاد نسايرها في أخلاق البذل والعطاء والإبداع. إن دهشتنا لا تصب في حاجاتنا الضرورية. بعد عقود من قيام هذه الرحلات ألفينا أنفسنا أمام ظاهرة الاستلاب بكل أبعاده: الثقافي والسياسي والاقتصادي...وحكاية الاستلاب ليس أنك مجرد تضيّع مشيتك وتمثّل نبرة الغير. هذا منظور تبسيطي للاستلاب. فهذا الأخير هو نتاج موقف ومنهج في الإدراك والفهم والاختيار قوامه افتقاد القدرة على التمييز بين الأولى والثانوي.. بين الأنفع والضار.. بين ما بالذات وما بالعرض.. بين الحقيقي والزائف... ولحظة الاستلاب هي لحظة شرود وضياع في عوارض مدنية لم ننشئها ولم نفهمها ولم نمتلك كيمياء صناعتها. إننا ماضون في استهلاك فائض قيمتها. وفي الاستلاب كما في حكاية فاوست نقبل بصفقة نتنازل بموجبها عن جزء منا. لكن الجزء الذي فرطنا فيه يلاحقنا ليسترد الباقي ويدمره. هذا الذي حصل بالفعل. لقد عقدنا صفقة بموجبها بعنا بعضاً من سيادتنا واستقلالنا وهويتنا مقابل بعض من عوارض التحديث وليس كيمياءه. وما بعناه تحول إلى شبح يلاحقنا عبر أجيال متعاقبة، طلباً لما تبقى لأجل تدميره. إننا اليوم نغرق في الاستلاب، ليس لأن هويتنا على المحك، بل لأننا يوماً بعد يوم تتسع المسافة بيننا وبين إرادة النهوض وصنعة الحداثة حتى لو غرقنا في أكسسواراتها وخردتها وتمثلاتها المغشوشة والممسرحة. فيما الجوهر لا يزال يُنبئ بأننا أمة لم تدخل بعد الكون الحديث إلاّ على إيقاع سياسات التّتبيع. لا زلنا في حاجة إلى رحّالتنا لكي يصف لنا عمق هذه الفجوة بعيداً عن الصورة المغشوشة التي تنتقل عبر وسائط جديدة وبتقنيات سبرنيطيقية عالية لم تكن في مكنة رحّالة القرن التاسع عشر. لكنها لا تنقل إلى الوعي شيئاً بقدر ما تؤدي وظيفة مسخ الوعي. بل هي في العموم تخاطب اللاوعي والغريزة، وتنقل كل شيء عن الحداثة إلا كيمياءها الحقيقية. لم يعد رحّالتنا الذي يحمل لوعة النهوض كما يحمل همّ ترقّي الأمة هو من يتكبد عناء نقل الصورة عن الآخر إلينا، بل هذه المهمة أصبحت من اختصاص الغرب نفسه. فهو يستعرض مظاهر تفوّقه عبر تقنية الصورة بشكل يومي يخاطب فيها أطفالنا وكبارنا مباشرة من دون وسيط تربوي ومحلّي يعزّز فينا ثقافة الهروب والاستهلاك والتمثلات الجوفاء لمعلبات الحداثة. إنهم يقتلون فينا النهضة بتزييف الحداثة. ليس تزييف المحلي لها، بل تزييف أهلها لنا، لكي نضيّع وقتنا ورأسمالنا في فقاعاتها لا في عناصرها الجوهرية التي ظللنا نبتعد عن أسبابها كلما حاولت هي أن تتحول إلى إعلان صوري يفتن المخيلة ويقلب الأولويات ويحجب عن الوعي حقيقة المهام وحقيقة السياسات التي تقتل التحديث بالحداثة وتميت داعي النهضة بالفرجة الرخيصة على منجزات الغير التي اقتنعنا بأن حظَّنا منها أن نتفرج عليها لا أن نصنعها.
[1] hani_dr@maktoob.com
[2] عبد المجيد القدوري: سفراء مغاربة في أوروبا (1610 1922)، ص 52، ط 1 مطبعة النجاح الجديد الدار البيضاء، 1995، منشورات كلية الآداب بالرباط.
[3] م. ن، ص 52.
[4] انظر د. عبد الحفيظ حمان: المغرب والثورة الفرنسية، ص 20، ط 2002، منشورات الزمن المغرب.
[5] م. ن، ص 20.
[6] م. ن، ص 29.
[7] م. ن، ص 29.
[8] م. ن، ص 30.
[9] م. ن، ص 42.
[10] م. ن، ص 43.
[11] كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ص226، تـ: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط 9 دار العلم للملايين، 1981، بيروت.
[12] انظر: سفراء مغاربة في أوروبا، ص32.
[13] سعيد بن سعيد العلوي: أوروبا في مرآة الرحلة، ص 34، ط 1 1995، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
[14] م. ن، ص 37.
[15] م. ن، 44 - 45.
[16] م. ن، ص 36.
[17] م. ن، ص 37.
[18] م. ن، ص 37.
[19] م. ن، ص 39 40.
[20] سفراء مغاربة في أوروبا، ص 51.
[21] رحلة الصفار إلى فرنسا، ص 54، 55، تحقيق سوزان ميلار، تعريب خالد بن الصغير ط 1 منشورات كلية الآداب بالرباط 1995م.
[22] م. ن، ص 55.
[23] م. ن، ص 137.
[24] م. ن، ص 159.
[25] م. ن، ص 163.
[26] م. ن، ص 166.
[27] م. ن، ص 169.
[28] م. ن، ص 100.
[29] م. ن، ص 198.
[30] م. ن، ص 199.
[31] م. ن، ص 113.
[32] م. ن، ص 125.
[33] م. ن، ص 162.
[34] م. ن، ص 168.
[35] م. ن، ص 159.
[36] سفراء مغاربة في أوروبا، ص 130.
[37] م. ن، ص 131.
[38] م، ن، ص 133.
[39] م، ن، ص 134.
[40] م، ن، ص 134.
[41] م، ن، ص 135.
[42] م. ن، ص. 135.
[43] م، ن، ص144.
[44] م، ن، ص 144.
[45] محمد الحجوي: الرحلة الأوروبية، تنقيح وإعداد سعيد بنسعيد العلوي، انظر: أوروبا في مرآة الرحلة، ص 103.
[46] م، ن، ص 103.
[47] م، ن، ص 172.
[48] م، ن، ص 133.
[49] م، ن، ص 113.
[50] م، ن، ص 113.
[51] م، ن، ص 117.
[52] م، ن، ص 116.
[53] م، ن، ص 131.
[54] م، ن، ص 31.
[55] م، ن، ص 131.
[56] م، ن، ص117.
[57] م، ن، ص 158.
[58] م، ن، ص 152.
[59] م، ن، ص 159.
[60] م، ن، ص 169.
[61] م، ن، ص 169.
[62] م، ن، ص 174.
[63] م، ن، ص 171.
[64] م، ن، ص 162.
[65] م، ن، ص 133.
[66] رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ص 272، سبق ذكر المصدر.
[67] م، ن ، ص 274 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق