مدخل إلى (العجائبية في أدب الرحلات)
بقلم : يوسف وغليسي
يبدو أنّ المنْجَز الإبداعي العربي في أدب الرحلة لم يحقّق من التراكم النصوصي ما يسمحُ باتخاذه مادة للفعل النقدي ، لذلك قلّ حضور دراسات جادة من هذا النوع في النقد العربي بَلْهَ الجزائري ؛ فإذا ما استثنينا الجهد الواضح الذي بذَلَهُ الدكتور عمر بن قينة في كتابيه: ( اتجاهات الرحالين الجزائريين في الرحلة العربية الحديثة ) و(الشكل والصورة في الرحلة الجزائرية الحديثة) ، الصادريْن سنة 1995، والتفتنا إلى غيره ، فإننا لا نكاد نرى إلاَّ الخَلاَء !.
في هذه المفازة الخالية ، ووسط هذا الفراغ العلمي الرهيب ، تشقُّّ الباحثة الجزائرية الجادّة الواعدة (الخامسة علاوي) طريقها الشاق إلى أدب الرحلات ( أو الأدب الجغرافي كما يسميه المستشرق الروسي اغناطيوس كراتشكوفسكي ،أو الأدب السياحي كما سمّاه – مؤخرا – الناقد الجزائري الكبير عبد الله الركيبي ،....) في رحلة علمية عسيرة ، تعْتوِرها عقباتٌ كأْداء ، شاقة المصْعد ، صعْبةُ المرتقى ، مادتُها (الرحلة الأدبية) ، وموضوعُها(العجائبية) : أحلاهما مُرّ ، وأَسْهلُهما صعْب ؛ فكلاهما مُرْدَفٌ بعشرات علامات الاستفهام والتعجب في ذاكرة المتلقي .... .
من هنا ، وضمن هذا السياق ، يكتسي كتاب( العجائبية في أدب الرحلات ) قيمة نوعية عالية في المسار الثقافي الجزائري خصوصا ، والعربي عموما .
صدر الكتاب عن منشورات جامعة قسنطينة ، سنة 2006، في 220صفحة وينبني على مدخل ثلاثة فصول ، يتقصى المدخل أدب الرحلات مفهوما وتجنيسا ، بينما يحيط الفصل الأول بجملة من المفاهيم النظرية المتعلقة بالأدب العجائبي ( العجائبية لغة ، العجيب في التراث العربي ، العجيب في الثقافة الغربية، الحدود المتاخمة للعجيب والغريب عند تودوروف ، ترجمة المصطلح، المجالات القريبة من العجائبي ،....) ، أما الفصل الثاني فيتعلق بالبنية العجائبية في النصوص الرحلية القديمة ؛ حيث يتقصى تمظهرات العجائبية في بعض النصوص السردية القديمة، لينتقل إلى البنية السردية في الرحلات ثم يختتم بإشكالية تلقي العجائبي وتجليات المتخيل في المحكي العجائبي .
وأما الفصل الأخير فيرمي بثقله المعرفي التحليلي النقدي في أعماق رحلة عربية استثنائية ( تاريخيا وفنيا ) ، هي رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة ، عبْر التوغّل في مكنونها العجائبي توغّلا لا يغفل الإحاطة التاريخية بالرحلة والرحّالة ، والوقوف عند خصائص عصر الرحالة ودواعي السرد العجائبي ، مع وقفة تحليلية مطوّلة عند البنية العجائبية للرحلة ، تنتهي عند الوصف العجائبي ووظائفه .
وكلّ ذلك بآليات نقدية علمية صارمة ولغة شائقة ممتعة .... .
لقد اهتدت صاحبة هذا الكتاب إلى موضوع في غاية الأهمية والطرافة ، لأنّ الموضوع العجائبي كان قاسما مشتركا بين مجموعة من الرحلات العربية القديمة ( التي آثرتْه واحتفتْ به ، ولم تجدْ من الدارسين مَنْ يحتفي بها قبل ظهور "الفونتاستيك" الغربي ، والتي لو قرأها تزفيتان تودوروف لأعاد النظر في بعض فصول كتابه:( مدخل إلى الأدب العجائبي ).
لعلّ عناوين مجمل تلك النصوص أن تشير إلى عجيب أو غريب :
- ( عجائب البلدان ) لأبي دُلَف الينبوعي (305- 385هـ) .
- ( المعرب عن بعض عجائب المغرب ) لأبي حامد الغرناطي (473- 565هـ ) .
- ( تحفة الألباب ونخبة الإعجاب) للغرناطي كذلك.
- ( عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ) للقزويني (605- 682هـ ) .
- ( خريدة العجائب وفريدة الغرائب ) لابن الوردي (ت 749هـ).
- ( تحفة النظّار وغرائب الأمصار وعجائب الأسفار)لابن بطوطة(703-776هـ)..
كما ركّزت الكاتبة كتابها على عصْرٍ عجائبيّ السّمات ، هو القرن الرابع الهجري الذي تدلّنا أحداثه التاريخية على أنه قد حدث فيه ما يدعو إلى العجب ؛ فقد وَلَدَتْ بَغْلةٌ فِلْوًا( جحْشًا)! سنة 300هـ، ووقع الخوف من حـيوان ( الزَّبْزَب ) الـذي كان يُرى بالسطـوح، سنة 304هـ ، فكان يأكل الأطفال ويقطع أثداء النساء !، وفي سنة314هـ جمدت مياه دجلة بالموصل، وعبرت عليها الدواب في سابقة غير معهودة !... .
إنّ منطلق رحلة ابن فضلان ( الموضوع المركزي للكتاب ) يَشي – أصلا – بشيء من العجائبية ؛ وذلك أن مَلِك الصقالبة يطلب مساعدة مالية من الخليفة العباسي المقتدر ، هو غنيٌّ عنها في الأصل ؛ إذ يطلب مالا لبناء حصْن يحميه من اليهود الخزر ، وهو يملك أضعَاف ذلك المال ! ، فكأنّ المرادَ هو برَكة الخليفة المسلم لا أمواله ؛ يقول الملك : ".. فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه وإنّي لخائفٌ من مولايَ أمير المؤمنين ، وذلك أني أخاف أن يَبلُغَه عنّي شيء يكرهه ، فيدعو عليَّ فأَهلِك بمكاني وهو في مملكته وبيني وبينه البلدان الشاسعة "، ثم يضيف : " ولو أني أردتُ أن أبني حصْنا من أموالي من فضة أو ذهب لما تعذّر عليّ ، وإنما تبركتُ بمال أمير المؤمنين فسألتّه ذلك "!... .
ممّا يُحسَب للباحثة ، في كتابها هذا ، أنها رمتْ بثقلها العلمي في رحلة إشكالية قديمة مكتنفة بغموض تاريخي كبير كغموض تاريخ صاحبها الذي لا تعرف عنه المصادر التاريخية أكثر منه أنه "أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد ، مولى القائد العباسي محمد بن سلمان ، وسفير الخليفة المقتدر إلى بلاد الترك والروس والصقالبة " دون أن تقوى حتىّ على تحديد سنة ميلاده أو وفاته ، ومن أراد أن يفعل أكثر من ذلك ، كعمر رضا كحالة في " معجم المؤلفين :1/220" ، قال:"...كان حيـًّا سنة 309هـ-921م "!، وكلّ من يَعرف أنّ هذه الرحلة قد حدثت سنة 309هـ، لا يملك إلاّ أن يضحك بصوت عالٍ من تحصيل الحاصل هذا، لأنّه لا يعقل أن يقوم شخص ميِّتٌ بمثل تلك الرحلة الدنيوية ! ... .
إننا نتساءل : إذا كان أحمد بن فضلان فقيها عارفا ومجادِلاً مقْنعا وكاتبا متمكنا (على نحو ما تبرزه اللغة الإبداعية الفنية العالية التي كتب بها رحلته )، إلى درجة تأهيله لقيادة وفد حضاري بهذا الحجم ، في رحلة تاريخية على هذا المستوى ، فلماذا غيَّبته المصادر التاريخية إلى هذا الحد ؟! ولماذا لا نجد ذكرا لهذه الرحلة العظيمة في (تاريخ بغداد )أو(تاريخ الخلفاء)أو غيرها من أمهات الكتب التاريخية ؟!
لماذا يعْقد السيوطي مَسَارد لأشهر الأموات في عهد كل خليفة ضمن (تاريخ الخلفاء ) لا نجد فيها إيماءً إلى ابن فضلان ؟!
لماذا يثني ياقوت الحموي على ابن فضلان ، في (معجم البلدان ) ، ويأخذ عنه ، ويصف رحلته بالقصة المشهورة ، ثم يسقطه من (معجم الأدباء ) المؤلَّف بعد ( معجم البلدان ) ، ولا يذكره حتى في "طبقة الموالي "؟!
ولماذا لا يُشار إلى ابن فضلان – قطعا – خارج الحديث عن ذلك الوفد المرسَل إلى بلاد الروس والصقالبة ؟!
أليس من الحيْف على ابن فضلان ، والجوْر على رحلته ، أن يغمط حقّه عربيا في وقت تعده روسيا والدول الاسكندنافية جزء من تاريخها القديم ؟!....
لعلّ هذا ما تريد أن تقوله الخامسة علاوي في كتابها هذا الذي ينفرد بإعادة النظر في جملة من المسلمات الأدبية المتعلقة بالرحلة والرحالة وبأدب الرحلة عموما، بل يطرح رؤى بديلة وينافح عن أفكار جديدة .
ذلك أنّ الباحثة تخوض خوضا جريئا في جنسية أدب الرحلة ، وتحاول أن تبحث عن موقع له ضمن نظام الأجناس الأدبية : هل هو قصة أو رواية أو سيرة ذاتية ؟ أو هو البديل العربي للقصة والرواية في أوروبا ، كما يرى فؤاد قنديل في كتابه (أدب الرحلة في التراث العربي )؟ لتنتهي إلى أنه " ملتقى الفنون "؛ فهو نمط خاص غير مستقل بنفسه ، بل شكل متقدم مما يعْرف اليوم بتداخل الأجناس الأدبية ، أو "الكتابة ضد التجنيس" كما يسميها معجب الزهراني .... .
كما أنها تدْلي برأي نقدي شُجَاع يقضي بإخراج الرحلة الخيالية من حظيرة أدب الرحلة وتُعيد التأريخ لأدبية الرحلة بالقرن الرابع الهجري (مع ابن فضلان الذي قال عنه محقق رحلته سامي الدهان إنه: لا يبتعد عن أسلوب الأديب ولا يتقرّب من أسلوب الجغرافي )، وليس القرن السادس كما جرت العادة ؛ إذ إنّ المبحث العجائبي في أدب الرحلة لم يقترن بابن فضلان بقدْر ما اقترن بالغرناطي وابن بطوطة ... .
وفي رأي جريءٍ آخر (قد يكون محض تخمين !) تقول الباحثة بفارسية ابن فضلان ! ، الذي لا نعرف عنه – في الأصل – أكثر من أنه موْلَى ؛ وحجتها في ذلك أنّ الفضاء الإيراني لم يُثِره ولم يصفه في الرحلة ، وهي ملاحظة كان الدكتور عبد الله إبراهيم قد أومأ إليها في كتابه ( المركزية الإسلامية) ، لكنه لم يجرؤ على الوصول إلى تلك النتيجة ، بل اكتفى باندهاشه من أنّ "ابن فضلان يخترق العالم الإيراني دون أن يُبـدي تطلعـات استكشافية ، لا يستوقفه منه شيء إلى أن يبلغ تخومه الشمالية الشرقية في بخارى..."(ص102).
لم يحسم التاريخ – بعْدُ – في الجواب عن سؤال : إلى أين وصل ابن فضلان وعلى أي طريق عاد إلى بغداد ؟! .
لكنّ كتاب الخامسة علاوي متحمس جدا لإمكانية أن يكون طريق العودة هو نفسه طريق الذهاب ، ولذلك فإنّ الرحالة لم يكن بحاجة إلى وصف ما جرى في طريق العودة ، لانّ همه الأصلي ليس كتابة رحلة وإنما قيادة وفد ، وإذن فالرجوع لا يحتاج إلى تدوين ، بل إنّ الورقة أو الورقتين الضائعتين من الرحلة كافيتان لتلخيص ذلك ، وهذا تفكير منطقي – في تقديري – من شأنه أن يضع حدا لإشكالية العودة ومسألة الصفحات القليلة الضائعة من مخطوط الرحلة في وقت واحد.
ومن جهة أخرى فإن الباحثة تنكر المسار الاسكندنافي للرحلة ، الذي يثبته آخرون كحيدرمحمد غيبة وعبد الله إبراهيم ، اعتمادا على رواية (أكلة الموتى) لمخائيل كريكطون .
وقد أُتيحَ لي – ذات لقاءٍ علمي حميم – أن أناقش الدكتور عبد الله إبراهيم في هذه المسألة ومسألة أخرى موصولة بها هي صورة ابن فضلان لدى الآخر ، فأصرّ على تاريخية الرحلة إلى النرويج تحديدا (رغم أن النرويج لم تكن مبرمجة في الرحلة ، ورغم أنّ رحلة ابن فضلان ليست رحلة تلقائية سياحية بل هي " رحلة تكليفية "باصطلاح حسين محمد فهيم في كتابه" أدب الرحلات" )، وحجة عبد الله إبراهيم الوحيدة هي أنّ النرويجيين- اليوم- يعدّون رحلة ابن فضلان جزءً من تاريخهم ، كما هي حال الروس المعاصرين الذين لا يعرفون أن أجدادهم كانوا يحرقون أمواتهم- على طريقة الهنود- إلا من خلال رحلة ابن فضلان !... .
وفي مسألة موصولة بما سبق ، ترفض الباحثة صورة ابن فضلان كما رسمتْها الأدبيات الأمريكية (كريكطون) وحوَّلتها إلى فيلمٍ شهير(كان العربي الأمريكي عمر الشريف بطلا له!)، هنا اختلفتُ مع عبد الله إبراهيم ثانية وسألته عن مدى مصداقية استخلاص الحقيقة التاريخية من رواية خيالية ذات مادة تاريخية ( كرواية "أكلة الموتى" )، فأجابني بأنّ الفراغ أو الجزء الضائع من رحلة ابن فضلان قد عُوِّض بمتخيل كريكطون !؛ فكأنّه يعترف بخيالية تلك الصورة لكنّه أثبتها في كتابه( المركزية الإسلامية – صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى )، من باب معرفة صورتنا في نظر الآخر، ليس إلا ... .
وإلا فمن يصدّق أنّ ابن فضلان المرشد الديني ، الفقيه ، معلم الشرائع ، سيصبح –في الرواية الأمريكية- مغنيا يتغنى بالقرآن وهو سكران – في محلّ يغصّ بالسكارى – حتى يفقد وعيه!، يشرب النبيذ ويشكر الله !، يُمارس المحرّمات مع الاسكندنافيات ! وهو الفقيه الغيور على دينه الذي ظلّ يحارب الاختلاط ويجتهد -كما قال في الرحلة- أن يستتر النساء من الرجال أثناء السباحة في النهر لدى الصقالبة ؟!
هل يُعقَل أن يَأتي في آخر الرحلة ما كان ينهى عنه في مطلعها ؟
وإذا سلمنا – جدلا – بأنّه فعل ذلك ، ألم يكن يخشى أن يبلغ الخليفة ذلك؟ وهل يُعقَل أن يسكت الخليفةُ المقتدر عنه ، وهو الذي صلب الحلاَّجَ وقتله ونكَّل به لمجرد أنه تفوَّه ببعض الشطحات الصوفية ؟!... .
إنّ وعْيَ صاحبة ( العجائبية في أدب الرحلات ) بمجمل هذه الاستفهامات التاريخية والفكرية الحادة قد انعكس على كتابها بالوضوح في الشخصية ، والتميز في الطرح ، وعدم الاستسلام لما سلَّم السابقون به . وقد ساعدها على ذلك الكم الهائل من المصادر والمراجع المتنوعة التي أتاحت لها الإحاطة بموضوعها من شتى الجوانب ،و النظر إلى الجانب الواحد من زوايا مختلفة ، فكان هذا الكتاب كشفا جديدا في عالم ( أدب الرحلة ) الذي سيظل دائما في حاجة إلى كشف..
هذه بعض ثمار الرحلة العلمية الأولى ، في حياة الباحثة الخامسة علاوي ، وثمار الرحلات القادمات خيْرٌ وأحْلى وأغْنى وأغْلى إن شاء الله.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article8572
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق